- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الأسباب والمسببات.. هل تحقيق النتائج بأيدينا؟
(النصر مثالاً)
إن بحث الأسباب والمُسبَّبات والعلاقة بين الأسباب والنتائج أو ما يُسمى قانون السببية، وهل هذه العلاقة ثابتة ولا تتخلف أو لا، هو موضوعٌ لطالما طرقه أهل النظر والأبحاث الفكرية والشرعية. والمُعتمد عملياً بين جميع الناس هو أن هذه العلاقة بدهية وقطعية. وهذا الترابط هو قدَرُ الله سبحانه وتعالى وسنته التي لا تتغير في الأشياء والناس.
ويُستعمل لفظ السبب في هذا الصدد بمعنيين؛ أحدهما المعنى المُراد في العقليات والمحسوسات، أي ما هو سبب لشيءٍ آخر ينتج عنه، كتحطم الزجاج عند ارتطامه بشيء صلب، أو سقوط شيء معلق بحبل إذا انقطع الحبل، أو كانفجار جسمٍ مغلقٍ إذا استمرَّ ازدياد الضغط داخله. فهذا الارتطام أو الانقطاع أو الضغط سبب عقلي لنتيجةٍ أو مسبَّبٍ هو التحطُّم أو السقوط أو الانفجار، وينتج المُسبّب حتماً عند حصوله، وبحصوله، أي عنده وبه. ويُستعمل لفظ السبب أيضاً بالمعنى الاصطلاحي الشرعي في أصول الفقه، وذلك كرؤية هلال رمضان أو هلال شوال لإثبات وجوب الصيام أو العيد، وكغياب الشمس لإثبات وجوب صلاة المغرب. فهذا سبب بمعنى أنه يثبت حكم الصوم أو العيد أو صلاة المغرب عنده وليس به. أي أن الحكم يثبت بدليله الشرعي وليس به، لأنه ليس سبباً عقلياً. ولذلك يُقال إن السبب في العقليات يثبت المسبَّب عنده وبه. أما في الشرعيات فالسبب يثبت الحكم عنده وليس به. والمراد في هذا البحث هو السبب في العقليات أو المحسوسات، وهو العمل أو الأعمال التي يراد التوصل بها إلى هدف، والهدف المُراد هو المُسَبَّب أو النتيجة.
وبحث الأسباب والمسببات عامٌّ في كل سبب ومسبَّب، أو ما هو مظنة سبب ونتيجة له. فتكون الدراسة مثلاً سبباً نتيجتها المقصودة والمرجوّة النجاح، وتكون الزراعة سبباً نتيجتها المقصودة والمرجوة الحصاد. ويكون الإعداد للحرب والقتالُ سبباً يُقصدُ به نتيجةٌ هي الانتصار وبسط النفوذ والسلطان وإرهاب العدو، وتكون العقوبات سبباً عقلياً ومادياً عملياً لمنع المخالفات، وتكون الطريقة الشرعية لإقامة الدولة الإسلامية سبباً مادياً عملياً لإقامتها التي هي النتيجة المستهدفة. فموضوع الأسباب والمسبَّبات عامٌ تندرج تحته كل هذه المسائل أو الأمثلة. ويندرج تحته أيضاً مدلول القول: "من جَدَّ وَجَدَ ومن زَرَعَ حصد" بكل عمومه.
ولما كان هذا البحث عامّاً في هذه المواضيع، فما ينطبق على أيٍّ منها لجهة كونه سبباً ومسبَّباً أو نتيجةً أو هدفاً، سينطبق على سائرها. وأكثرها ذكراً وتساؤلاً حوله هو موضوع النصر بوصفه نتيجةً لأعمال تحققه.
فإذا كانت العلاقة بين السبب ومسبَّبِه حتمية - وهي كذلك - فهذا يعني أن الأخذ بالأسباب سيؤدي حتماً إلى نتائجها. أي أن الأخذ بأسباب النصر سيؤدي حتماً إلى النصر، فهل هذا صحيح؟ وإذا كانت أسباب النصر بأيدي الذين يستهدفونه، فهذا يعني أن النتائج أيضاً بأيديهم، فهل هذا صحيح؟ هذه الأسئلة من مقتضيات البحث.
ومن مقتضياتِه أيضاً، بعد تقرير حتمية الترابط بين النصر وأسبابه، التوفيقُ بين هذه الحقيقة وبين النصوص الشرعية القطعية الثبوت، والقطعية الدلالة على أن النصر من عند الله وحده كقوله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ سورة آل عمران: 126، وقوله: ﴿إن يَنْصُركُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكم مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فِلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون﴾ سورة آل عمران: 160، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ سورة محمد: 7. الأمر الذي يرى فيه بعض الناظرين تعارضاً يبعث على التشكيك بتلك الحقيقة أو التشكُّك بشأنها. وبتعبير آخر، تنشأ تساؤلات: هل تحقيق النصر يعتمد على الأسباب فقط بناء على قانون السببية المادي، أم أنه من عند الله وحده سواء حصل الأخذ بالأسباب أو لم يحصل؟ وبتعبير آخر: هل هناك تعارض بين كون النصر له أسبابه المادية، وأنه نتيجة حتمية لها إذا أُخِذَ بها أخذاً صحيحاً، وبين كونه من عند الله فقط؟ هل القول إذا أُخِذَ بالأسباب يحصل النصر حتماً ودائماً، يتعارض مع النصوص التي تحصر النصر بأنه من عند الله؟ وهل القول إن النصر من عند الله يعطيه من يشاء بغض النظر عن الأخذ بالأسباب، يعني أن أمر الإعداد هو تكليف شرعي تعبدي فقط، ولا تأثير له على النصر لا سلباً ولا إيجاباً، ويتناقض مع قانون السببية؟ وبهذا يتَّضِح الإشكال الذي يتراءى ويُثير التساؤلات. والإشكال هو أنّ العلاقة بين السبب والمُسَبَّب حقيقة قطعية، ودلالة النصوص على أن النصر من عند الله هي أيضاً حقيقة قطعية، والحقائق لا تتعارض. فما التفسير؟ كيف يُحلُّ هذا الإشكال ويُرفع التعارضُ بين هاتين الحقيقتين ويتبيَّن توافقهما؟
والجواب بدايةً هو أن الحقائق لا تتناقض ولا تتعارض، سواءٌ الحقائق العقلية فيما بينها، والشرعية فيما بينها، والشرعية والعقلية معاً فيما بينها، فكلها حقائق. وإذا تراءى أي تعارض بينها، فهو غير حقيقي، وإنما هو اشتباه يزول بالعلم والتدقيق وإحسان النظر. لذلك يُسمى تعارضاً ظاهرياً وليس حقيقياً.
ولذلك، لا تعارض بين قانون السببية أو العلاقة الحتمية بين الأسباب ونتائجها وحقيقة أن النصر من عند الله وحده. فإذا وقع السبب بتمامه فحصول المسبب أو النتيجة حتمي، هكذا قدّر الله الأشياء وسننها. فإذا رأينا أن النتيجة لم تحصل فهذا لا يعني انخرام القانون، وإنما يعني أن السبب لم يحصل، أو لم يحصل بتمامه. فقد يكون هناك خطأ كأن يظن الفاعل أنّ ما يقوم به سببٌ وهو ليس كذلك. أو أن أحداثاً أجهضت السبب أو عرقلته وكانت بمثابة موانع وهذا كثير الوقوع. أو أن يكون الأخذ بالأسباب ناقصاً غير مكتمل وهذا يجعل النتيجة محتملة وليست أكيدة. وتكون قوة احتمالها بمقدار الأخذ بالأسباب. وهذا الأمر دائم، إذ لا يمكن لأحد مهما كان علمه وشأنه أن يأخذ بالأسباب بشكل كامل، لأنه لن يستطيع أن يعرفها بشكل كامل، ولن يستطيع أن يأخذ بكل ما عرف منها، فضلاً عن الجهل بما يطرأ من أحداث ومتغيرات، وهذا يجعل الأخذ بالأسباب ناقصاً، ومن المحال الأخذ بها بشكل كامل.
ولذلك، فإن الخطأ أو الخلل في تحقيق النتيجة لا يرجع إلى خلل في قانون ارتباط الأسباب بمسبباتها، بل هو يرجع إلى خطأ ونقص في الأخذ بالأسباب. وهذا النقص، إضافةً إلى وجود أسباب ليست ضمنَ المدرك أو المقدور، يجعل النتائج غير مضمونة. ولذلك كان من المقطوع به أن النتائج بيد الله سبحانه وليست بأيدي العامل مهما أُخِذ بالأسباب. فالإنسان يسعى للأخذ بالأسباب التي يعتقد أنها توصل إلى النتيجة، وهو حين يفعل لا يستطيع أن يأخذ إلا بما يدركه منها، وبما يستطيعه مما يدركه. ولما كان إدراكه محدوداً وناقصاً، وقدرته أيضاً محدودةً وناقصةً، فسيكون تحقيق النتيجة أو الهدف ليس بيده، بل في علم الله سبحانه، وبيده وحده.
وقد يُقال: ولكن يُلاحظ في كثير من الأعمال أن تحقيق النتائج يجري بلا تخلف، سواء أكان العمل بسيطاً كهدم جدار أو عملية قتل، أو معقداً كالأعمال ذات الخطوات والمراحل الكثيرة، كالصناعات الحديثة المتطورة مثلاً. والجواب هو أنه كلما كانت أسباب الهدف المطلوب أو أسباب النتيجة المراد التوصل إليها قريبة وغير معقدة، ومدركة ومقدوراً عليها، ازدادت إمكانية الأخذ بالأسباب أكثر، وازداد تحقيق النتيجة، ولكنها لن تبلغ الاكتمال. لأن هناك دائماً ما هو خارج عن إدراك الإنسان وقدرته. وهناك عراقيل تحصل أو موانع، تحول دون اكتمال الأخذ بالأسباب، كالنسيان أو الموت، أو حصول أعمال مضادة، أو طوارئ طبيعية كزلزال أو ريح أو أمراض تتفشى وما إلى ذلك. فالأخذ بالأسباب يؤدي إلى النتيجة قطعاً، ولكن لا يمكن للإنسان مهما أوتي من علمٍ وقدرة، ولو كان نبياً، أن يأخذ بالأسباب كاملةً مائة بالمائة.
ويزداد الأمر بياناً بقوله تعالى: ﴿إنّ اللهَ لَا يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ سورة الرعد: 11. فهذا النص يفيد أن الله سبحانه هو الذي يغير ما بالناس، ويفيد أيضاً أنه سبحانه لن يغير ما بهم حتى يغيروا هم ما بأنفسهم. وهذا أيضاً يبعث على النظر، وذلك أنه إذا غيروا هم ما بأنفسهم، فقد غيّروا وحصل التغيير، فلماذا يقول تعالى إنه بعد ذلك سيغير ما بهم؟ والجواب هو ما تقدم من أن هناك من أسباب التغيير ما هو بأيدي الناس، وهناك ما هو خارج عن إدراكاتهم وقدراتهم. فعليهم أن يقوموا بتغيير ما بهم مما هو بأيديهم، فإذا فعلوا يُغيِّر الله سبحانه وتعالى ما بهم مما ليس بأيديهم، ويتحقق التغيير المنشود.
وبأخذ النصر في الحرب مثالاً، يتبين ما تقدم بوضوح. فالنصر نتيجة مستهدَفة، يُتوصل إليها بأسبابها من إعداد وتخطيط وقتال وما إلى ذلك. والأخذ بأسباب النصر ضروري لتحقيقه. ولكن مهما أوتي الآخذون بالأسباب من قوىً فكرية ومادية وعسكرية، وقدرات على التحليل والتخطيط، لن يحيطوا بكل أسباب النصر، أو بسببه كاملا، وسيظل الإعداد ناقصاً. يضاف إلى ذلك أن العدو يخطط أيضاً ويأخذ بالأسباب. ويضاف أيضاً الطوارئ التي لا يعلمها إلا الله، كحصول اختراق أو خيانة، أو انقلاب أو اغتيالات، أو موت قادة، أو أن تدبّ أمراض، أو تحصل كوارث طبيعية وما إلى ذلك. وهذه أمثلة واقعية تبيّن أنه لا يمكن الإحاطة بأسباب النصر، وأن الأسباب التي يؤخذ بها قد تتعطل بأسباب بشرية أو طبيعية. وهذا يبين أن الوقائع المحسوسة أيضاً تدل على أن النتائج والأهداف ومنها النصر هي من عند الله وحده. وبهذا يرتفع التعارض المذكور، ويتبين أنه تعارض ظاهري وموهوم.
وثمة مسائل أخرى تتعلق بهذا الموضوع، منها مثلاً أن النصر من عند الله، فهل إذا انتصر الكفار على أمثالهم من الكافرين أو على المسلمين، يكون الله هو الذي نصرهم؟ ومنها أن الآيات دلت على أن نصر الله للمؤمنين مشروط بأن ينصروه، وأنهم إن نصروه نصرهم. ونصر المؤمنين لله سبحانه هو أن يعبدوه ويطيعوه. فهل هذا الشرط يعني أنهم إذا عصَوْه لا ينصرهم؟ ومنها هل القول إن النتائج بيد الله سبحانه وليست بأيدينا يعني أنّ الناس والمكلفين غير مسؤولين عن الهزائم أو عن فشلهم بتحقيق الأهداف؟
والجواب على السؤال الأول هو أن قوله تعالى ﴿وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ يحصر النصر بأنه من عند الله وحده، وهو عام في كل نصر، سواءٌ نصر المؤمنين أو نصر الكفار. وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى ينصر المؤمنين والملتزمين، وينصر غير المؤمنين أيضاً وغير العابدين والطائعين.
وهذا يدفع إلى السؤال التالي وهو إذا كان انتصار العاصين والكافرين وأضرابِهم هو من الله سبحانه، أفلا يتعارض هذا مع الآيات التي تدل على أن إيمان المؤمنين ونصرهم لله شرطٌ لنصرِه لهم، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ سورة محمد: 7، وقولِه: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِه وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ سورة آل عمران: 160، وقوله: ﴿وَكَانَ حَقَّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ سورة الروم: 47؟ ومعلومُ أنّ الشرطَ يلزمُ من عدمه العدم. أفليسَ ثمَّ تعارضٌ بين القول إن الله ينصر العُصاة والكفار والقول إنّ الإيمان والطاعة شرطٌ لنيل نصر الله سبحانه؟
والجواب هو أنه لا تعارض البتّة بين هذه النصوص. فقوله تعالى ﴿وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ عامٌ في كلِ نصر، سواءٌ للكافرين أو المؤمنين. وقد جاء إضافةً إلى هذا الدليل العام دليلٌ خاصٌ في الموضوع يؤكد عمومه. وهو نصر الله تعالى للروم على الفرس، حيث أخبر سبحانه وتعالى أن الروم سيغلِبون، وأن هذا سيكون بنصر الله لهم. قال تعالى: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُون * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ سورة الروم: 4-5، ومعلومُ أن الروم كفار، أي أنّ شرط الإيمان والطاعة غير حاصل عندهم. فهذا القول ثابت. وقد دلت النصوص أيضاً على أن نصرَ المؤمنين لله شرطٌ لنصره لهم. فقوله تعالى: ﴿إنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ قطعي الدلالة على ذلك. ومع ذلك، فإنّ هذا لا يعني أن عدم الطاعة ينفي إمكانية نصر الله. وبيانُ ذلك أنّ هذا الشرط ليس شرطاً لحصول النصر، وإنما هو شرط لحتمية نصر الله لهم بسبب استحقاقهم لنصره. أي أن الله سبحانه وتعالى كتب على نفسه أن إيمان المؤمنين ونصرَهم له يوجبُ نصره لهم. فهو وعدٌ من الله أو عهدٌ كتبه على نفسه تفضلاً منه على المؤمنين. كما في قوله تعالى: ﴿وَعْدَاً عِلِيْهِ حَقَّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ﴾ سورة التوبة: 111، وكما قال: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ سورة الأنعام: 54. والأمر هو نفسه ههنا في مسألة النصر، ويؤكده قوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقَّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ سورة الروم: 47، فهو حقٌ على الله أي عهدٌ منه، أو وعدٌ كتبه سبحانه على نفسه، بأنكم إن فعلتم كذا نصرتكم. فالشرط في قوله تعالى ﴿إنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾، ليس شرطاً لنصر الله لهم، بل هو شرط لحصول العهد والوعد من الله لهم بنصرهم، والله لا يخلف وعده ولا عهده. وعليه، فإذا انتفى الإيمان أو الطاعة لا ينتفي النصر من الله، ولكن ينتفي وعده بالنصر. وحينئذٍ يفعل ما يشاء، فينصر أو لا ينصر، ينصر هذا الفريق أو ذاك، ويخذلُ هذا الفريق أو ذاك. كما قال تعالى في سورة الروم: ﴿يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾. أما إذا حصل إيمانهم والتزامهم فقد وجب نصر الله سبحانه لهم.
وأما مسألة المسؤولية عن الفشل أو الهزائم أو عن عدم تحقق النصر، فالجواب عليها هو أن هذه كلها نتائج، وقد تقدم أن النتائج بيد الله وحده، وهي ليست في مقدور الناس. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ سورة البقرة: 286. لذلك، لا تصحُّ محاسبة القائمين بالأعمال على النتائج، ولكن يصح وينبغي أن يُسألوا عن أخذهم بالأسباب التي من شأنها أن تؤدّي إلى النتائج وأن يُحاسبوا عليها. فيُحاسبون على الإهمال والتقصير أو الخطأ في أخذهم بها. وذلك أنّ النتائج إنما يُتوصّل إليها بأسبابها. والتكليف يقع على الأسباب وليس على النتائج. ولذلك لا نجد في التكاليف مثلاً: "انتصروا"، ولكننا نجد ﴿وأعِدُّوا﴾، ﴿انْفِرُوا﴾، ﴿قَاتِلُوا﴾، ﴿اقْتُلُوهُمْ﴾، ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾، ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾. وإذا جاء أمرٌ بشيءٍ هو نتيجة فيجب صرفه عن النتيجة إلى أسبابها. ومثالُ ذلك أن الشرع أمر المسلمين بالتحابب، ولكن الحب ليس عملاً مقدوراً يقوم به المرء، فهو ليس كالبيع مثلاً أو القتال أو الصلاة أو الكلام، وإنما هو نتيجة لا تحصل إلا بأسبابها. ولذلك أرشد ﷺ إلى أفعال مقدورة هي بمثابة أسباب تؤدي إلى التحابب، كإلقاء التحية وتبادل الهدايا. فقال ﷺ: «لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ»، رواه الشيخان واللفظ لمسلم. وروى عنه البخاري: «تهَادُوا تَحَابُّوا».
وأشير بإيجاز في مسألة المساءلة والمحاسبة، وأنها تكون على الأخذ بالأسباب وليس على النتائج، إلى حالات حصلت مع النبي ﷺ، وفي تدبُّرها تمامُ الدلالة على ما تقدم. وهي أن المسلمين خسروا في معركة أحد وهم بقيادة النبي ﷺ. ولا يمكن محاسبته على هذه النتيجة، ولا اتهامه بالتقصير بسببها، فهو المعصوم الموحى إليه. وكذلك لا يمكن أن يُقال إلا أنه أخذ بالأسباب على أكمل وجهٍ ممكن. ومثل ذلك يُقال في غزوة حنين، حيث خسر المسلمون في بداية المعركة قبل أن ينتصروا. أما في غزوة بدر فقد اتخذ النبي ﷺ موضعاً لمعسكره، وهذا أخذٌ بالأسباب، ولكن الحُباب بن المنذر رضي الله عنه جادله في أن هناك ما هو أفضل من هذا الموضع لتحقيق النصر، فأخذ برأيه وغيّر منزله. وهذا يدل على أن الأخذ بالأسباب يدخله النقص والخطأ، ويدخله الاجتهاد، ويلزم فيه النصح والمحاسبة. بعكس النتائج، حيث لم تحصل محاسبة على الخسارة في أُحُد، ولا على ما حصل في بداية معركة حنين. وكاد النبي ﷺ أن يقدم تنازلات في معركة الخندق مع أنه حفر الخندق وأعدّ ما يستطيع، وهذه التنازلات هي سببٌ بيده، أراد النبي ﷺ اتخاذه للحؤول به دون هزيمةٍ محتملة ليست بيده. ولكن الصحابة جادلوه في السبب فعدل عنه.
إن الأمثلة على ما تقدم كثيرة، وهي تدلُّ على أنّ أخذ الناس بالأسباب لا يكتمل ليحقق النتائج بشكل قطعي، وتدلُّ على أن النتائج بيد الله وحده، وأن المحاسبة تكون على الأخذ بالأسباب وليس على النتائج. ويتبين منها أنه لما كان الأخذ بالأسباب لا يكتمل، ويعتريه نقص المعرفة وخطأ التقدير، وتحول دونه موانع، ويحصل فيه الفشل، فينبغي إعادة النظر في الأسباب لمعالجة كل مانع أو خطأ أو نقص. والله الموفِّق والمستعان.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الدكتور محمود عبد الهادي