- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
البراغماتية الأمريكية وكسب ودِّ موسكو على حساب كييف وأوروبا
من يتابع السياسة الدولية يدرك أنّ أمريكا تدير مصالحها بعينٍ باردةٍ تحسب الربح والخسارة، غير آبهةٍ بشعوب العالم. وما يجري اليوم في الساحة الأوكرانية يكشف عن وجهٍ آخر من وجوه البراغماتية الأمريكية؛ إذ تبدو واشنطن - رغم الخطاب المعلن - وكأنها تبحث عن مساحة تفاهمٍ مع موسكو، ولو جاء ذلك على حساب أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين الذين ظنّوا أن الولاء للتحالف الغربي يمنحهم حمايةً استراتيجية.
منذ بداية الصراع قدّمت أمريكا الدعم لأوكرانيا، لكن هذا الدعم لم يكن بلا سقف، فقد بدا واضحاً أنها تتعامل معها كأداةٍ لاحتواء النفوذ الروسي، أو كورقة ضغطٍ تخدم مصالحها. ومع طول أمد الحرب وتزايد كلفتها بدأت معادلات واشنطن تتغير.
ربما كان من أهم أهداف هذه الحرب تحجيم روسيا والضغط عليها اقتصادياً، غير أن صمود موسكو أظهر أن الضغط الغربي لن يكسرها كما تخيّل البعض. لذلك يبدو أن التوتر مع الصين صار أولويةً أعلى من استمرار حرب الاستنزاف.
هذه الحسابات دفعت أمريكا للتفكير في مخرجٍ يحفظ هيبتها، ولو كان عبر تقديم تسوياتٍ تقترب من الرؤية الروسية. أمّا أوروبا، الحليف الأكثر خسارة، فهي تدفع الفاتورة الكبرى: اقتصادٌ منهك، وطاقةٌ أغلى، وصناعاتٌ تتراجع، وحالة خوفٍ استراتيجي غير مسبوق. ومع كل ذلك يشعر الأوروبيون أنّ أمريكا لا تحمل مخاوفهم بجدية، وأنّها تتحرك وفق مصالحها فقط، وتضعهم في مواجهةٍ طويلة مع روسيا دون حلولٍ حقيقية. لقد أدركوا أن التحالف مع أمريكا لا يعني المشاركة في صنع القرار، بل يعني غالباً تحمّل التكاليف دون مكاسب.
وقد تكون ثمة أسباب أخرى تدفع واشنطن لتخفيف التصعيد مع موسكو، منها رغبتها في التركيز على الصراع مع الصين، وهو الملف الأهم في القرن القادم اقتصادياً وتقنياً وعسكرياً. وربما رغبتها في تجنّب سباق تسلّحٍ نووي، أو الحد من التوتر المفرط الذي وضع العالم على حافة الهاوية، فضلاً عن الضغط الشعبي المتزايد على دافعي الضرائب الذين سئموا تمويل حروبٍ لا تنتهي.
وفي ضوء ذلك تبدو واشنطن راغبةً في إعادة ترتيب علاقتها مع موسكو، ولو كان ذلك عبر تقليص الدعم لأوكرانيا، أو دفعها للقبول بحلولٍ لا تلبي طموحاتها. وهكذا تجد أوكرانيا نفسها بين المطرقة والسندان: إمّا حربٌ بلا أفق، أو تسويةٌ تلبّي بعض مطالب موسكو. وبذلك تصبح أوكرانيا ضحية الصراع بين القوى الكبرى، والحسابات السياسية التي لا علاقة لها بالمبادئ التي ترفعها أمريكا وأوروبا.
لقد ثبت أنّ السياسة التي تنتهجها واشنطن ليست ساحةً للأخلاق، بل ميدان مصالح يتقدّم فيه الأقوى ويتراجع فيه الأضعف. وما يجري اليوم يُظهر بوضوح أنّها مستعدةٌ للتنازل، أو إعادة التموضع، أو تغيير خطابها إذا اقتضت مصالحها. وبات جلياً أن العلاقات الدولية التي تديرها لا يحكمها الوفاء للعرف أو الشراكات، بل الميزان الذي يُرجّح الكفة الأمريكية فوق كل اعتبار.
وهكذا فإنّ القرارات الصادرة من مركزٍ واحد تُنتج عالماً مختلّ التوازن، تُهمَّش فيه إرادة الأمم، وتُستضعف فيه الدول، وتُعاد فيه خرائط السياسة وفق مصالح القوى العظمى التي لا تعبأ كثيراً بثمن الدماء على الأرض.
لقد وصل العالم اليوم إلى مرحلةٍ مفصلية؛ لم تعد فيها الرأسمالية قادرة على إخفاء عيوبها، ولا على التستر على عفونتها الأخلاقية التي طفت على سطح الحياة الإنسانية. فهو نظامٌ يعظّم المال ولو سُحقت الشعوب، ويقدّس السوق ولو تحول الإنسان إلى سلعة، نظامٌ صنع ثراءً بلا عدل، وحرياتٍ بلا قيم.
ومع تفاقم هذه الأزمات صار من الضروري أن يولد نظامٌ جديد يحمل للعالم خلاصاً حقيقياً، لا ترقيعاتٍ لفظية ولا شعاراتٍ مستهلكة. وهذا النظام المرتقب بإذن الله لن يكون إلا نظام الإسلام؛ نظامٌ يوازن بين الروح والمادة، بين الحرية والمسؤولية، بين الملكية الفردية والعدالة. نظامٌ لا يجعل الدولة أداةً بيد الطغاة، ولا يجعل الإنسان رقماً في حسابات الشركات، بل يضع كرامة الإنسان فوق كل الاعتبارات.
وإنّ الحديث عن الإسلام ليس تعصباً ولا حلماً، بل قراءة موضوعية لواقعٍ ينهار دمّرته الرأسمالية القذرة. وإذا أرادت البشرية أن تنهض من جديد، فإن روح الإسلام بما تحمله من قيم الحق والعدل والأمان ستكون بإذن الله أحد أبرز أعمدة النهوض.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
مؤنس حميد – ولاية العراق



