- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
حرب المعادن
لقد ظهرت على الساحة العالمية وفي صدام الصراعات الجيوسياسية المتصاعدة، معركة من نوع جديد لم يعهدها العالم من قبل وتعتبر من أهم ساحات المواجهة الحديثة، هي اليوم العمود الفقري لأي صناعة متطورة وهي معركة لا يستخدم فيها السلاح التقليدي مطلقا؛ إنها حرب المعادن الحيوية الاستراتيجية وهي المواد المستخدمة في أهم الصناعات مثل الطيران والدفاع والإلكترونيات وغيرها. وهذه الصناعات تعتبر من الأمن القومي، لذلك يجب علينا أن نتعرف على بعض من هذه المعادن:
1- العناصر الأرضية النادرة مثل: النيدوديميوم، البراسيوديميوم، الدسبروسيوم، التيربيوم... وغيرها، وهي تستخدم في المغناطيسات القوية جدا وتوربينات الرياح، وهي مهمة للاستخدامات في محركات السيارات الكهربائية والإلكترونيات الدقيقة وفي مجال الدفاع العسكري مثل الرادارات والطائرات والمنظومات الذكية.
2- معادن مثل: الغاليوم، الجرمانيوم وهي تستخدم في أشباه الموصلات البصرية والليزر وفي الاتصالات... وغيرها. والأنتيمون وهي تستخدم في البطاريات وأغلب المركبات العسكرية والمدنية.
3- النحاس والنيكل والألومنيوم والمعادن المستخدمة في البنى التحتية وصناعات الطاقة.
4- معادن وعناصر أخرى مثل: التيتانيوم تستخدم للطائرات والفضاء، وأيضا: التنتالوم والتيلوريوم تستخدم في الإلكترونيات المتقدمة وأشباه الموصلات، ولا ننسى السيليكون بجودة عالية جدا.
هذه المعادن وغيرها تدخل مباشرة في القطاعات الدفاعية وشبه الموصلات وأي نقص فيها يؤثر تأثيرا مباشرا على الصناعات الحساسة التي توقف التطور التكنولوجي أو على أقل تقدير تجعله بطيئا ويعتبر سلاحا قويا جدا في إخضاع الخصم في حلبات المنافسة.
وإذا نظرنا للواقع اليوم نجد أن الصين تسيطر بنسبة كبيرة جدا على التنقيب وهو أمر عادي ولكنها تتحكم بالمراحل التي تلي التنقيب وهي التحويل والتنقية للوصول إلى التصنيع لعدد كبير من هذه المعادن خصوصا العناصر الأرضية النادرة وهي متوفرة في عدد كبير من الدول وخاصة بلاد المسلمين، ولكن المشكلة هي في العمليات التي تلي التنقيب فهي عمليات معقدة جدا تحتاج إلى مئات الخطوات الكيميائية لفصل العناصر الأرضية النادرة حيث هناك 17 عنصرا متشابها بشكل كبير جدا وعمليات الفصل معقدة وينتج عنها تلوث بيئي هائل لأنها تحتوي على مواد مشعة وأحماض، وأيضا تحتاج إلى كلفة مالية ضخمة جدا حيث قد تصل كلفة مصنع معالج واحد من 1 إلى 2 مليار دولار، ناهيك عن الخبرات البشرية العالية الجودة وبخبرات عالية جدا.
وهذه الصناعات لا تكاد تتجمع في مكان واحد أي من التعدين إلى البطاريات إلى الإلكترونيات وما يلزمها، ولكن الصين هي الدولة الوحيدة في العالم التي استطاعت أن تغلق دائرة العمل داخل بلادها دون الحاجة لأي طرف خارجي ما أتاح لها السيطرة شبه التامة على بعض العناصر. فعلى سبيل المثال تتحكم الصين بنسبة 90% من العناصر الأرضية النادرة وأيضا 70% من سلاسل بطاريات EV الليثيوم والكوبالت، وسيطرة تفوق 90% على أنود البطاريات الجرافيت الصناعي.
ومن هنا نجد أنها عملت بشكل بطيء وسري واستطاعت أن تمتلك سلاح التكرير والمعالجة لهذه المعادن حيث يصعب على دول العالم الوصول إلى مستواها في وقت قصير ما جعلها وجهة لدول العالم الكبرى وخاصة حين أعلنت عام 2025 تقييد تصدير معدات معالجة العناصر النادرة الأرضية وأعلنت رسالة للعالم تقول فيها نحن لا نتحكم بالمناجم فقط، بل بالمفاتيح التي تحول التراب إلى تكنولوجيا.
لذلك نجد اليوم توجه رئيس أمريكا لزيارة الصين بعد حربه التجارية (التعرفة الجمركية) حيث إن هذه الحرب كانت ظاهريا لحماية الصناعة الأمريكية لكنها فعليا هي جزء من خطة طويلة لاحتواء الصين في ميدان المعادن والتكنولوجيا الاستراتيجية.
حيث إن ترامب حينما اعتلى السلطة عام 2018 فرض رسوما جمركية على السلع الصينية بقيمة تتجاوز 360 مليار دولار وكان تبريره لذلك لا يخرج عن عجز الميزانية التجارية الأمريكية مع الصين وعدم السماح بسرقة الملكية الفكرية الأمريكية وحماية الوظائف المحلية. ولكن في الحقيقة كان لكبح الصين قبل أن تسيطر على سلاسل التوريد العالمية في التكنولوجيا والمعادن النادرة، وكان مهندس هذه الحرب هو بيتر نافارو وروبرت لايتهايزر، وهذه الخطة جاءت على خلفية أزمة جزر سينكاكو عام 2010 حيث هددت الصين بوقف تصدير المعادن النادرة.
وفي ولايته الجديدة فرض رسوما جمركية عالية لإضعاف الاقتصاد الصيني ورفع تكلفة التصدير وحاول منع الشركات الأمريكية من شراء المعادن النادرة وبدأ بإحياء مشاريع التعدين الأمريكية في نيفادا ووايومنغ وأعاد إقناع أستراليا وكندا واليابان بإنشاء تحالف معادن نادرة.
ولكن الموقف الثابت للصين بعدم الخضوع كان صاعقا له حيث اعتمدت عدة نقاط لثباتها وهي:
* علمها أن أمريكا تعتمد على 70% من المعادن النادرة من الصين.
* صعوبة قيام أمريكا بالتعدين ومعالجة هذه المعادن لأن العملية تحتاج إلى مراحل كثيرة ومعقدة جدا بيئيا وتكنولوجيا.
لذلك انتقلت الحرب إلى حرب تأمين سلاسل التوريد التكنولوجية والمعادن الحرجة.
وعليه أصبحت الحرب الدائرة ليست من يبيع أكثر بل حول من يملك المواد الخام والمكونات التي يصنع منها المستقبل.
لذلك نجد أن أمريكا تحاول الوصول إلى أكثر المناجم لهذه المواد مثل (دارفور والكونغو والنيجر وأفغانستان والعديد من بلاد المسلمين) ولكن الحصول على المادة الخام لا ينهي الحرب لأن المشكلة في التعدين والمعالجة للوصول إلى معادن منفصلة ونقية، وهذا ما أبدعت به الصين دون غيرها.
زيارة الرئيس دونالد ترامب للصين محاولة منه لعقد اتفاقيات يتحصل على ما يلي:
* تأمين سلاسل الإمداد وضمان تدفق المعادن والمواد الاستراتيجية للحصول على معدات تحقق مستقبلا تقليل الاعتماد على الصين على المدى البعيد وتأمين قيود تلزم الصين على تصدير المعادن النادرة لها.
* تخفيف التوتر التجاري وتخفيض الرسوم الجمركية وفتح الباب للصادرات الأمريكية وهذا يعطي القوة التفاوضية ليونة أكبر.
* حتى يًري العالم أن أمريكا تتعامل من مبدأ المبادرة وليس المتلقي وهذا قد يستفيد منه في جبهته الداخلية وسباقات انتخابية لو استطاع الترشح لولاية أخرى.
* كسب وقت من خلال تأمين سلاسل الإمداد حتى تستطيع أمريكا الاعتماد على نفسها ما دام أنها قد استطاعت السيطرة على مناجم الخام وبقي عليها إتقان التعدين والتنقية.
ولكن السؤال ماذا يمكن أن تعطيها الصين خاصة وأن الرئيس الصيني شي جين بينغ يتمتع بعقلانية وسياسة فذة؟ وأعتقد أن توافق الصين على أن تمنحها أمريكا سوقا للمنتجات الصينية مع تخفيف الرسوم بشكل كبير على الصادرات الصينية لأمريكا مقابل بعض التسهيلات واستمرار تصدير المعادن النادرة مع المحافظة على استمرار الهيمنة الصينية وأي شراكة تكون بشروط صينية.
ولو أننا تخيلنا نجاح الاتفاق الأمريكيّ الصيني ماذا سوف يتغير اقتصاديا:
* انفراج في الأسواق العالمية بشكل عام.
* ثبات أو استقرار جزئي لليوان والدولار وذلك بانتهاء الحرب التجارية والرسوم الجمركية.
* استمرار سلاسل التوريد العالمية وتستفيد من ذلك الدول الناشئة مثل تركيا والبرازيل والهند.
* انفراج جزئي على التكنولوجيا والرقائق وسوف تتراجع أسعار المكونات الإلكترونية والمعادن النادرة.
* تباطؤ في التضخم العالمي مع انخفاض الرسوم الجمركية.
وكل هذا سوف يحدث على أرضية اقتصاد مالي عالمي هش قابل للسقوط في أي لحظة لأن الانهيار المالي ليست هذه هي أسبابه.
ولا ننسى أن الاتفاق لو حدث لا يعني نهاية التوتر الاستراتيجي لأن باقي الملفات سوف تبقى مفتوحة ومحاولة أمريكا فرض نفسها كقطب أوحد ورفضها التعددية القطبية للعالم، وأيضا الصراع الحقيقي على من يملك التفوق في الذكاء الصناعي والرقائق والمعالجات، ولا ننسى الخلاف الدائم على تايوان حيث إنها مسألة تخص الصين فهي تعتبرها جزءا مقدسا من أراضيها ولكن أمريكا لا تسمح بخروج تايوان عن سلطتها.
ومن هنا نجد أن كل ما يحدث ما هو إلا مسكن لفترة قريبة لأن المسألة ليست حول المال بل هي حول السلطة. ومن هنا يكون للاعب الخفي قيمة قادمة لو استطاع الاستفادة من ظروف الساحة الدولية بشكل حقيقي ألا وهو دولة الخلافة الراشدة، أي ظهور مبدأ الإسلام في دولة تدخل في تغيير الموقف الدولي بشكل جذري،
وهنا لن أذكر سوى التغيير الذي يخص المقال فقط:
فإن هذه الدولة بعد أن تلملم شتاتها وتعود التركة السابقة لجسمها تصبح قوة عالمية هائلة. فهي تمتلك سوقا خاصا بها بحوالي 1.8 مليار نسمة، وتعتمد على عملة موحدة مبنية على الذهب والفضة، ويكون لها جيش كبير تحت مظلة الخليفة، وتصبح هي من يتحكم في الطاقة والمعادن حيث تمتلك 70% من احتياطيات العالم من النفط والغاز وأيضا معادن حرجة مثل النيكل في إندونيسيا والليثيوم في أفغانستان واليورانيوم في النيجر والذهب في السودان ومناجم كبيرة من المعادن الأرضية النادرة في كل بقاع الدولة المترامية الأطراف، وبذلك تعمل على إكمال دائرة التصنيع بشكل رفيع المستوى وبشكل سريع تبعا لنظام التصنيع الحربي الذي سوف تعتمد إنشاءه في الأيام الأولى من قيامها.
وهي التي تستطيع فرض شروط وتسعير والهيمنة على جميع المعادن النادرة ولا تستطيع الصين مساومتها لأنها بحاجة لهذه الدولة من كل الاتجاهات لأن الطاقة والممرات والسوق كلها تحت أمر هذه الدولة العظيمة.
ولو كتبت في هذا المجال لاحتجت مجلدات للتكلم على ما سوف يتغير، ويكفي وجود هذه الدولة ليحدث تحول حضاري عالمي يعيد تعريف كل شيء؛ الاقتصاد والأخلاق والعدالة والمساواة وغيرها الكثير.
اللهم عجل لنا بها لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ليعم النور في جميع أنحاء العالم.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
نبيل عبد الكريم



