- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الماء بين التفريط والتآمر
سد النهضة سلاح أمريكي يخنق مصر ويهدد وجودها
ارتبط وجود مصر بنهر النيل منذ القدم، فهو شريان حياتها ومصدر بقاء أهلها. فمصر تعتمد على النيل بنسبة تقارب 97% من احتياجاتها المائية، إذ يبلغ إجمالي مواردها المائية السنوية نحو 60 مليار متر مكعب، منها 55.5 مليار من النيل، بينما الاحتياجات الفعلية تتجاوز 114 مليار متر مكعب. أي أن هناك فجوة تقارب 54 مليار متر مكعب تُسدّ عبر إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي والمياه الجوفية. ومع هذا العجز الكبير، فإن أي نقص إضافي، ولو بضعة مليارات، يعني كارثة وجودية.
هذه الحقيقة تجعل من قضية سد النهضة الإثيوبي أخطر تهديد واجهته مصر في تاريخها الحديث. فهو ليس مجرد مشروع تنموي كما يزعمون، بل هو سلاح استراتيجي في يد أمريكا، يهدد حياة أكثر من 110 مليون مصري، ويضع مستقبلهم رهينة لقرارات الخارج.
منذ انطلاق المشروع عام 2011، كان بإمكان مصر - وهي الدولة الأكثر تضرراً - أن توقفه في مهده عبر الضغط السياسي أو التحرك العسكري، لكنها لم تفعل! بل سار النظام وراء وهم الحلول الدبلوماسية، حتى وقّع في آذار/مارس 2015 على اتفاق إعلان المبادئ في الخرطوم، الذي اعترف لأول مرة بشرعية بناء السد، وأعطى إثيوبيا الغطاء القانوني والدولي اللازم.
هذا الاتفاق لم يتضمن أي التزام صريح بحصة مصر التاريخية، بل ألغى عملياً ما نصّت عليه اتفاقية 1959 التي ضمنت لمصر والسودان حصصهما. والأدهى أن الاتفاق ألزم مصر بالتعاون مع إثيوبيا، بدلاً من أن يلزم إثيوبيا بعدم الإضرار بدول المصب!
بعد ذلك، توالت جولات التفاوض العبثية تحت رعاية أمريكية وأوروبية وأفريقية. ومع كل جولة جديدة، كانت إثيوبيا تُكمل مرحلة من بناء السد أو الملء. واليوم، وبعد عدة عمليات ملء وتشغيل جزئي، لم يبق لمصر إلا بيانات إنشائية من نوع "الماء قضية وجودية"، "لن نسمح بالمساس بأمننا القومي"؛ بينما الواقع أن السد أصبح أمراً واقعاً يهدد حياة المصريين.
من الخطأ النظر إلى إثيوبيا باعتبارها صاحبة القرار في هذه القضية. فالولايات المتحدة هي الراعي الحقيقي للمشروع، والمستفيد الأكبر منه، فمن ناحية التمويل والدعم الدولي، شركات أمريكية وغربية شاركت في الدراسات والتمويل والدعم الفني، بينما وُفِّر الغطاء السياسي عبر المؤسسات الدولية. كما أن أمريكا تعلم أن الماء بالنسبة لمصر أخطر من النفط بالنسبة للدول الأخرى. وبالتالي، فإنها جعلت السد ورقة ضغط على النظام الحالي ليبقى خاضعاً لإملاءاتها، وورقة احتياطية تستخدمها ضد أي تغيير سياسي أو ثورة مستقبلية، هذا بخلاف التهديد المباشر لمصر من وجود السد أو انهياره فتخفيض تدفق المياه ولو بنسبة 10% (5.5 مليار متر مكعب) يعني خروج مليون فدان من الرقعة الزراعية. وإذا قلّت المياه بنسبة 20% فستتأثر حياة 20 مليون إنسان مباشرة. هذا وحده يكفي لشلّ الاقتصاد المصري وإغراق البلاد في الفوضى، بخلاف ما يمكن أن يحل بالسودان ومصر من كوارث حال انهيار السد الذي لن يؤثر على إثيوبيا.
إذن، السد ليس مشروعاً إثيوبياً فحسب، بل هو سلاح استراتيجي أمريكي مصوَّب إلى قلب مصر.
ينظر الإسلام إلى الماء على أنه ملكية عامة للأمة، لا يجوز أن يُحتكر أو يُسلَّم لعدو. قال ﷺ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ». وبذلك فإن أي تفريط في مياه النيل هو خيانة عظمى، لأنه تفريط في حق الأمة جمعاء. والواجب على الدولة أن تحمي منابع المياه وتضمن وصولها، ولو تطلّب ذلك استخدام القوة.
كما أن الشرع يقرر قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وحفظ حياة الناس، وبالتالي فإن السيطرة على منابع النيل وتأمينها واجب شرعي. فلا يجوز بحال أن تُترك إثيوبيا أو أية قوة أجنبية تمتلك قرار حياة مصر وأهلها.
ماذا لو كان لنا دولة وخليفة؟
لو كان للمسلمين دولة حقيقية تحكمهم بالإسلام، لما تُرك سد النهضة يُبنى يوماً واحداً، بل كانت الدولة ستتحرك منذ اللحظة الأولى بكل الطرق، لمنع أي تهديد لمياهها، وكانت ستسيطر على منابع النيل لتأمين حق الأمة في الماء، ولو أصرت قوة معادية على بناء سد يهدد حياة المسلمين، لمنعته بالقوة. قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾. لكن ما يحدث اليوم هو أن النظام المصري يربط مصير البلاد بـالقانون الدولي الذي وضعه المستعمر، ويتنازل عن السلاح الوحيد الذي كان يمكن أن يردع إثيوبيا؛ القوة.
التقارير الدولية والمحلية تؤكد أن مصر على أعتاب كارثة حقيقية
نصيب الفرد من المياه: تراجع إلى نحو 550 مترا مكعباً في السنة (أقل من خط الفقر المائي البالغ 1000 متر مكعب)، ومن المتوقع أن ينخفض إلى 330 مترا مكعباً بحلول 2050.
الزراعة: أكثر من 8 ملايين فدان تعتمد على مياه النيل، وأي نقص في المياه سيؤدي إلى بوار مساحات شاسعة، وتراجع إنتاج القمح والأرز والذرة، ما يزيد الاعتماد على الاستيراد.
الغذاء: تستورد مصر بالفعل أكثر من 12 مليون طن من القمح سنوياً، ومع أي نقص إضافي في المياه ستصبح أكثر تبعية للخارج.
الطاقة: السد الإثيوبي ينتج أكثر من 6 آلاف ميجاوات، بينما مصر تتحمل خطر العجز المائي دون مقابل، ما يزيد الفجوة الاقتصادية.
الصحة والبيئة: انخفاض تدفق النيل يزيد ملوحة المياه في الدلتا، ويهدد حياة الملايين بمشاكل صحية وزراعية.
لم يقف النظام المصري عاجزاً فحسب أمام السد وتهديداته، بل تجاوز ذلك إلى سياسات عبثية تمس حياة الناس وصحتهم، إذ اتجه إلى استغلال مياه الصرف الصحي المعالجة، بل وأحياناً غير المعالجة جيداً، لتعويض العجز المائي. فبدلاً من أن يسعى لتحرير منابع النيل أو تأمين حصص مصر الشرعية، لجأ إلى إعادة تدوير مياه المجاري وضخها في الاستخدام الزراعي بل وأحياناً في الاستخدامات التي تتصل بحياة الناس اليومية!
هذا السلوك ليس مجرد فشل إداري أو قصور تقني، بل هو جريمة سياسية ممنهجة، إذ يجعل الشعب يعيش وسط الأمراض والأوبئة، ويحمّله ثمن أزمة افتعلها النظام نفسه حين شرعن السد ووقّع اتفاق المبادئ، ثم قَبِل بالارتهان لمفاوضات عبثية. والأدهى أن الإعلام الرسمي يقدّم هذا التوجه كـ"حل ذكي" أو "إبداع وطني"، بينما هو في الحقيقة عقوبة جماعية للشعب، وإمعان في تحميله تكلفة جريمة النظام وتفريطه.
وقد أظهرت تقارير طبية ودراسات بيئية أن الاعتماد على مياه الصرف الصحي في الزراعة يؤدي إلى انتقال أمراض خطيرة مثل الفشل الكلوي، وأمراض الكبد (التهاب كبدي فيروسي)، والسرطانات الناتجة عن التلوث الكيميائي. كما أن تلوث التربة والمياه الجوفية بهذا الاستخدام يورث آثاراً طويلة الأمد تصعب معالجتها. وكأن النظام يقول للشعب: "لن نحارب لاستعادة حقكم في الماء، بل سنسقيكم ما يهدد حياتكم"!
وهذا السلوك ينسجم تماماً مع الدور المرسوم للنظام في مصر وهو: ترويض الشعب وإشغاله بالأزمات الداخلية، وتحويل كل حق طبيعي إلى منّة يمنّ بها الحاكم على الناس. فالماء الذي هو حياة الناس وحقهم الشرعي، صار مادة للابتزاز: "احمدوا الله أننا نجد لكم بديلاً"، بينما البديل هو السمّ البطيء.
في المقابل، يوضح الإسلام أن الماء من الموارد العامة التي جعلها الشرع ملكية مشتركة بين المسلمين، لا يجوز التلاعب بها أو احتكارها أو تركها تحت رحمة عدو، فكيف يُترك ماء النيل رهينة بيد إثيوبيا بإدارة أمريكية، بينما يُسقى الشعب بمياه الصرف الصحي الملوثة؟!
إن هذه السياسة تكشف أن النظام لا يسعى لحل الأزمة، بل إلى إدارتها بما يضمن استدامة الخضوع والتبعية، ويحوّل الماء من مصدر حياة إلى وسيلة إذلال. وبهذا يصبح السد والماء سلاحاً مزدوجاً: سلاحاً خارجياً تمسك به أمريكا وأداتها إثيوبيا، وسلاحاً داخلياً يستخدمه النظام لمعاقبة الشعب وتأديبه.
إن الحلول الجزئية - كتحلية المياه أو تطوير الري - قد تخفف من الأزمة، لكنها لا تحمي مصر وأهلها من الخطر الوجودي، والسبيل الوحيد هو التحرر من التبعية الأمريكية، وتوحيد مصر والسودان وسائر بلاد المسلمين في دولة واحدة قوية، ومن ثم السيطرة على منابع النيل، وتأمين تدفق المياه كحق شرعي للأمة.
هذه الرؤية لا تتحقق إلا في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي تجعل السيادة للشرع والسلطان للأمة، وتتعامل مع الماء كسلاح حياة لا كسلاح في أسواق السياسة.
يا أهل مصر الكنانة: إن الماء حياة، والتفريط فيه خيانة. وإن السد الذي يُسوّق لكم كرمز تنمية في إثيوبيا هو في الحقيقة سلاح أمريكي مسلّط على رقابكم. والنظام الذي يزعم حماية أمنكم القومي هو ذاته الذي وقّع على التفريط به. إن الواجب اليوم أن تدركوا أن خلاصكم ليس في استمرار هذا النظام، ولا في انتظار النظام الدولي، بل في الانحياز إلى مشروع الإسلام الذي يحفظ حياتكم وأمنكم وكرامتكم. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾. فلتنهضوا لحمل هذا المشروع العظيم، ولتكونوا جزءاً من أمة واحدة، ودولة واحدة، تحمي ماءها وأرضها ووجودها.
اللهم أعد لنا دولة الإسلام وسلطانه وشرعه لنستظل بظلها من جديد؛ خلافة راشدة على منهاج النبوة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
سعيد فضل
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر