- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
من ولاية تكساس وتهديدها بالانفصال
إلى كاليفورنيا المضطربة ونذر الحرب الأهلية
إن الدول الكبرى عندما تشيخ وتهرم تظهر فيها الأمراض، وأول تلك الأمراض هو التراجع الفكري المتعلق بالمبدأ، والذي بدوره يؤدي إلى حالة من الاضطراب عند الساسة فلا يقدمون أي خدمة للدولة، من الناحية الفكرية، وتظهر حالة التناقض الفكري والاتهامات المتبادلة، والطعن والتشكيك في المبدأ، بل الانحراف، وعدم القدرة على حل القضايا العالقة، فتهتز الثقة عند من بيدهم الأمور، وتتدحرج كرة الثلج إلى العامة، ويُرى ذلك في انعكاس وتدهور في الخدمات، والترهل في كل شيء، والسبب بأن مستوى القناعات الفكرية في الإطار العام والهيكلي للدولة قد تراجع، بحيث أصبحت المفاهيم عندهم لا تشكل قناعات قوية حتى يدافعوا عنها.
وتبعا لكل هذا تظهر عند الأمة العنعنات، فيطلقون بالونات اختبار، في شكل مظاهرات، وحالات تمرد وعصيان من حين لآخر، معبرين عن عدم رضاهم عن سير الدولة، فإذا نجحت الدولة وقويت فكريا تزول هذه الأعراض، وتعود كما كانت، أما إذا ظلت حالة المرض الفكري الناتج عن فساد المبدأ من أساسه، واستنفدت كل أشكال الترقيع الذي عاش به منذ قرون، فتتدهور حالة الدولة، إلى أن تصل مرحلة الانهيار الكلي، كما جرى للاتحاد السوفيتي سابقاً. أما إذا كان المبدأ صحيحا، منبثقا من عقيدة عقلية، ومعالجا للعقدة الكبرى؛ من أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ ولماذا جئنا؟ ليصل الإنسان إلى وجوب وجود خالق لهذا الكون، وأن الله أرسل الرسل، فتصبح مثل هذه العقيدة مبدأ صحيحا، قادرا على معالجة قضايا الإنسان، بوصفه إنسانا. فالإسلام مبدأ للحياة بدولته الخلافة، قد حل هذه العقدة الكبرى. فإن غاب هذا المبدأ، فهو قادر على العودة إلى الحياة من جديد.
واليوم تعيش أمريكا نموذج المبدأ الفاسد، الذي استنفد ترقيعاته، وهو المبدأ الرأسمالي، وبدت الأمراض تظهر فيه من حين لآخر، معلنة بداية ونهاية السقوط المدوي لهذا المبدأ، وحالة الترنح التي بدأت منذ فترة.
فلنقف على حجم تلك التحديات الكبيرة، التي ظهرت في أمريكا من اضطرابات فكرية، واضطرابات تعبر عن سوء الرعاية. فعلى سبيل المثال، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا، يوم السبت 10 حزيران/يونيو 2025 بعد أن نفذت دائرة الهجرة والجمارك، عدة مداهمات في أنحاء المدينة، وتصاعد الموقف بسرعة، بعد أن نشرت إدارة ترامب الحرس الوطني، بالرغم من اعتراضات حاكم ولاية كاليفورنيا نيوسوم ومسؤولين آخرين في الولاية. وقال ترامب إنه سيرسل المزيد من قوات الحرس الوطني إلى كاليفورنيا إذا لزم الأمر، وشدد أنه لا يريد حربا أهلية، مضيفا "أشعر أنه لم يكن لدي خيار بشأن نشر الحرس الوطني في لوس أنجلوس، وأعتقد أني فعلت الشيء الصحيح".
وفي تطور لافت نقلت وكالة نوفا نيوز بتاريخ 10/6/2025 اتساع رقعة الاحتجاجات ضد سياسة ترامب بشأن الهجرة، واعتقال ثمانية متظاهرين في سياتل. وفي ولاية تكساس، تم حشد الحرس الوطني في مواقع عدة تحسبا لمظاهرات جديدة. ووفقا لما نقلته وكالة نوفا نيوز، قال وزير الدفاع بيت هيغسيث للكونغرس، إن الأمر الذي وقعه ترامب السبت، يدل على إرساء سابقة لتدخلات مماثلة، في ولايات أخرى. وأضاف أن الأمر يتعلق بالوقاية. إذا وقعت أعمال شغب أو تهديدات لسلطات إنفاذ القانون في أي أماكن أخرى فسنتمكن من التدخل بسرعة، منتقدا حاكم كاليفورنيا غافن نيوسوم بسبب تحفظه المزعوم، حتى النائب العام بام بوندي، وأكد أن الإدارة لا تخشى أن تذهب أبعد من ذلك، ما يعني استخدام قانون التمرد. ونقلت العربية الثلاثاء 10/6/2025 عن غافن نيوسوم، حاكم كاليفورنيا على اقتراح ترامب باعتقاله، على خلفية الاحتجاجات التي تشهدها الولاية، ومدن أخرى رفضا لسياسة إدارة ترامب بشأن الهجرة، واصفا الدعوة بأنها خطوة لا لبس فيها نحو الاستبداد. وقال نيوسوم في منشور على حسابه الرسمي عبر منصة إكس "دعا رئيس الولايات المتحدة للتو إلى اعتقال حاكم ولاية وهو في منصبه. هذا يوم تمنيت أن لا أراه أبدا في أمريكا". وقد اندلعت احتجاجات أخرى وفق وكالة نوفا نيوز، في سان فرانسسكو وشيكاغو ودالاس وفيلادلفيا وإنديانا بوليس وميلووكي وبوسطن وأتلانتا وواشنطن.
وفي العام الماضي، نقلت الشرق نيوز في شهر كانون الثاني/يناير 2024 أعلنت المحكمة العليا الأمريكية بأغلبية تصويت، بقطع وإزالة الأسلاك الشائكة التي أقامتها ولاية تكساس على طول الحدود مع المكسيك لمنع المهاجرين من العبور إلى أراضيها. وبعد تصويت أغلبية 5 مقابل 4 في المحكمة العليا، تزايدت دعوات ولاية تكساس لإعلان الاستقلال عن الولايات المتحدة، حيث أثار قرار المحكمة غضب سكان تكساس، الذين يؤيدون الإجراءات التي اتخذها الحاكم الجمهوري جريرج أبوت في أيار/مايو 2021 بأمر تركيب الأسلاك الشائكة، على الحدود الجنوبية للولاية لمكافحة الهجرة غير الشرعية، والتي شهدت تدفقا للأشخاص الذين يعبرون الحدود من المكسيك. ونقلت الشرق نيوز كذلك في تشرين الأول/أكتوبر 2021 خبر قيام المدعي العام في تكساس كين باكستون، برفع دعوى قضائية ضد إدارة بايدن، بسبب إزالة العملاء الفيدراليين للأسلاك الشائكة. وظهرت مئات المشاركات على موقع إكس، تحت هاشتاج "تكساس" الذي يشير إلى انفصال تكساس عن أمريكا. وكتبت إحدى مستخدمات إكس التي تطلق على نفسها، الجيل التاسع من تكساس، "باعتباري من تكساس أعتقد اعتقادا راسخا، أن الخيار الوحيد القابل للتطبيق في تكساس، للمضي قدما هو التصويت على الانفصال". وأصدرت حركة تكساس القومية بيانا يدين حكم المحكمة العليا قائلة "إنها تعتقد أن المحكمة الفيدرالية خذلت تكساس مرة أخرى". ويشار إلى أن قرار المحكمة العليا بإرسال عناصر من حرس الحدود الفيدراليين لإزالة الأسلاك الشائكة التي أقامتها حكومة ولاية تكساس قد أعاد القلق من حدوث فوضى محتملة وشبح الحرب الأهلية.
هذا هو الواقع الذي جرى في العام الماضي، وأحداث منتصف شهر حزيران/يونيو من العام الجاري، وما حمل من تحديات جسام، ومظاهر لا تنتهي فصولها بإذن الله تعالى، إلا بموت أمريكا من الداخل وفق مبدئها الفاسد. وهذا ما نقلته صحيفة رأي اليوم الإلكترونية بتاريخ 12/6/2025 حيث قالت "باحث تنبأ بانهيار أمريكا يقول: التفكك بدأ للتو"، حذر الأستاذ بيتر تورتشين أستاذ في جامعة كونيتيكت، من أن الولايات المتحدة، تتجه نحو عقد يتسم بعدم الاستقرار السياسي، بشكل متزايد. أجرت مجلة نيوزويك الأمريكية مقابلة مع تورتشين عالم البيئة الذي تحول إلى مؤرخ، في أعقاب الاحتجاجات المتصاعدة، ونشر قوات الحرس الوطني في لوس أنجلوس، في حملة ترامب على المهاجرين، وذكرت المجلة أن تنبؤات تورتشين، بشأن ما يحدث قد صدقت بدقة غريبة على ما يبدو. ففي تحليل نشرته مجلة "نيتشر" عام 2010 حدد تورتشين عدة علامات تحذيرية مثل ركود الأجور ووجود فجوة متزايدة في الثروة وفائض في النخب المتعلمة لا يقابلها وظائف تناسب مؤهلاتها وعجز مالي متسارع، وقال إن كل هذه الظواهر وصلت إلى نقطة تحول في السبعينات، واستند تورتشين في تنبؤاته إلى إطار عمل يعرف باسم النظرية الهيكلية الديمغرافية التي تضع نموذجا لكيفية تفاعل القوى التاريخية التي تتجلى في عدم المساواة الاقتصادية وتنافس النخبة، وسلطة الدولة لدفع دورات عدم الاستقرار السياسي، وفي المقابلة قال تورتشين الذي يعمل حاليا أستاذا فخريا في جامعة يوكون إن كل واحد من تلك المؤشرات ازدادت حدة. مشيرا إلى الركود الفعلي في الأجور وتأثيرات الذكاء الاصطناعي على الطبقة المهنية، والمالية العامة التي لا يمكن التحكم فيها بشكل متزايد. ويجادل المؤرخ أن العنف في الولايات المتحدة يميل إلى التكرار كل 50 عاما تقريبا لافتا إلى نوبات من الاضطرابات حدثت في الأعوام 1870 و1920 و1970 و2020. ويضيف أن أحد أوجه الشبه التاريخية عما يحدث الآن هو عقد السبعينات. فقد شهد ذلك العقد ظهور حركات راديكالية من حرم الجامعات وجيوب الطبقة الوسطى، ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن في جميع أنحاء الغرب، وقال لمجلة نيوزويك إنه كان قد توقع في عام 2010 أن تشهد الولايات المتحدة فترة من عدم الاستقرار السياسي ثلاثية الأبعاد مع بداية القرن الواحد والعشرين مدفوعة بتفاقم الفقر الشعبي والإفراط في إنتاج النخب، والضعف في قدرات الدولة. ووفقا لنموذجه فإن صعود ترامب لم يكن سببا للأزمة السياسية في أمريكا، بل كان أحد الأعراض التي انبثقت من مجتمع متوتر بالفعل، بسبب اتساع نطاق عدم المساواة، وتشبع الدولة من أعداد النخب، وقال لقد ازدادت المنافسة بين النخب بشكل أكبر مدفوعة الآن في الغالب بتقلص المعروض من المناصب بالنسبة لهم.
وقد ردد هذه النظرية عالم الاجتماع في جامعة واين ستيت، جوكا سافولاينن، الذي جادل في مقال رأي نشر مؤخرا في صحيفة وول ستريت جورنال بأن الولايات المتحدة تخاطر بخلق طبقة فكرية راديكالية قوامها أفراد تلقوا تعليما عاليا جدا، وأُقصوا من مؤسسات الدولة. وحذر سافولاينن من أن سياسات عهد ترامب مثل تفكيك برنامج التنوع والمساواة والاندماج والبحوث الأكاديمية وتقليص المؤسسات العامة قد تؤدى إلى تسريع وتيرة الاضطرابات، التي حدثت في السبعينات، وأشار إلى أن سياسات الرئيس ترامب يمكن أن تزيد من حدة هذه الديناميكية. وبدوره يعتقد تورتشين المؤرخ أن النظام الأمريكي دخل ما يسميها الحالة "الثورية" وهي مرحلة تاريخية لم يعد من الممكن لمؤسسات الدولة، من خلال آلياتها ونظمها احتواء الظروف المزعزعة للاستقرار. وختم بالقول إن كل هذه المؤشرات تكتسب لسوء الحظ زخما متزايدا.
لعل الشاهد في واقع أمريكا، وما بدا فيها من حالات الانحدار الداخلي، تبعه انحدار في سياستها الخارجية التي أسقطت قيمها التي تنادي بها منذ دخولها حلبة الصراع الدولي، من حقوق إنسان وديمقراطية وغيرها، بما تتشدق به، وخدعت العالم به منذ سنوات تطاولت على الناس، فهي بعيدة كل البعد عن أي قيمة تنادي بها، فعندما نادت بحقوق الإنسان، كانت هي أول من قتلت الإنسان بدم بارد، بدءا بالهنود الحمر، وهضم حقوق الزنوج، وترحيلهم بطريقة قاسية تشبه معاملة الحيوان وليس الإنسان. وهي أول من استخدم القنبلة الذرية في اليابان، وما زالت آثارها باقية، وأخيرا وليس آخرا جرائمها ضد الإنسان والإنسانية، وتضامنها الفج ودعمها غير المحدود لكيان يهود في حربه على أهل غزة، وقد شهد أمريكان ومنهم طلاب الجامعات بسقوط قيمها عندما خرجوا منددين بجرائم دولتهم ضد أهل غزة، وتدمير المستشفيات ودور الإيواء وسياسة التجويع. فسقوط أمريكا وما تنادي به من قيم فهي قد سقطت منذ فترة، وما بقي لها إلا التشييع الأخير الذي ينتظره العالم كله بما أذاقت به العالم من جرائمها وويلاتها، وأسلوبها القذر، في استعمار العالم بأبشع الصور من افتعال للحروب وتجويع العالم وجعله في حافة الجوع والمسغبة، وصناعتها للأزمات المتلاحقة. فما يحتاجه العالم اليوم هو بروز مبدأ جديد يحل محل المبدأ الرأسمالي، الذي تدير به أمريكا العالم، وقد فشلت فشلا مدويا، والمبدأ الصحيح اليوم متوفر عند المسلمين، وهو مبدأ الإسلام العظيم. ولا يحتاج إلا لدولة تطبقه وتحمله إلى العالم بالدعوة والجهاد، وهي دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة القائمة قريبا بإذن الله تعالى.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الشيخ محمد السماني - ولاية السودان