الأحد، 18 محرّم 1447هـ| 2025/07/13م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

هُوِيّةٌ لدولة؟ أم دولة بلا هُوِيّة؟!

 

 

 

في السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية بايع ممثّلو الأوس والخزرج الوافدون من يثرب إلى مكّة الرسولَ ﷺ بيعةَ حُكمٍ وحرب وطاعة. فهاجر النبيّ ﷺ إليهم ليتسلّم بموجبها الحكم منهم. وبوصوله ﷺ إلى المدينة ومباشرته تدابير الحكم والسلطان قامت الدولة الإسلامية الأولى، على أساس جديد هو العقيدة الإسلامية، وشرَعَ ﷺ في رعاية شؤون رعيته بشريعة الله التي بدأت تتنزّل مع قيام هذه الدولة، بعد أن لم يكن قد نزل منها من قبل إلّا النزر اليسير. فبدأ العالم يتعرّف على دولة جديدة، ذات هُويّة حضارية جديدة، ومجتمع ذي طريقة عيش جديدة. وكانت أنظار العالم تزداد انشدادا إلى هذه الدولة كلّما ازداد توسّعها الذي بلغ في عهود دولة الخلافة الهند وتخوم الصين شرقا وضفاف الأطلسي غربا وتخوم فرنسا من جهة الأندلس. وكان من قوّة الإسلام الحضارية أن تمكّن من استقطاب ذلك العدد الهائل من الشعوب. كانت شعوبا ذات ديانات كثيرة، وثقافات مختلفة، ولغات شتّى، وتشريعات متباينة، وألوان وأعراق متعدّدة، وكانت لها طرائق عيش قدد. وبالتالي كان هؤلاء الناس متفرّقين بين "هُويّات" لا تكاد تحصى. ومع ذلك استطاع الإسلام بموافقته للفطرة الإنسانية وإقناعه للعقل أن يصهرهم جميعا في بوتقة واحدة. فهم بعد إيمانهم واعتناقهم الإسلام هجروا دياناتهم وثقافاتهم وتشريعاتهم وطرائق عيشهم السابقة، بل هجر كثير منهم لغاتهم الأصلية، وطوت حضارة الإسلام صحائف حضاراتهم السالفة، فغَدَوا أمّة واحدة، وجسّدوا حضارة واحدة، واندمجوا في طريقة عيش واحدة، واعتمدوا منظومة تشريعية واحدة هي الشريعة الإسلامية، دون أن يشكّل تعدّد أعراقهم وماضيهم التاريخي المختلف وبيئاتهم الجغرافية والمناخية المتفاوتة أيّ عائق. فكانت الأمّة الإسلامية على امتدادها الهائل هذا تُعَرَّف بهُويّة واحدة هي الإسلام. فالإسلام وحده هو هُويّة هؤلاء الناس جميعا بعد أن أصبحوا أمّة واحدة هي الأمّة الإسلامية.

 

فالإسلام هو الذي أعطاهم الفكرة الكلّية عن الحياة الدنيا وما قبلها وما بعدها وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها، وهو الذي أعطاهم معنى وجودهم في هذه الحياة، وهو الذي صوّر لهم معنى العيش والغاية منه، وهو الذي عرّفهم بمفهوم السعادة، وهو الذي زوّدهم بمفاهيم الخير والشرّ ومقياس الحسن والقبح في الأفعال، وهو الذي جعلهم على شريعة من الأمر فاستغنوا بها عن شرائع المشرّعين، وهو الذي أحلّ بينهم رابطة الأخوّة الإسلامية محلّ الروابط القومية والعرقية واللغوية والوطنية والقبلية وسائر العصبيات، وكانوا بنعمة الله إخوانا. فلم يترك الإسلام مكانا بعد هذا كلّه لهُويّة أخرى غير هُويّته، فكان القرشي والأوسي والخزرجي، والأسود والأبيض، والعربي والعجمي، إذا سئل أيّ منهم عن هُويّته قال أنا مسلم.

 

هذه الهُويّة التي حملها المسلمون وعَرّفوا أنفسهم بها طوال مئات السنين، إلى أن اخترقت رؤوسَهم لوثةُ الحضارة الغربية. فتلوّث فريق من المسلمين بلوثة القومية الطورانية، ثمّ تلوّث آخرون بلوثة القومية العربية، فانقسم كثير منهم مع مطلع القرن العشرين إلى فريق يُعلي "الهُويّة القومية التركية" وآخر يعلي "الهُويّة القومية العربية". وبعد انهيار الدولة الإسلامية ووقوع معظم بلاد المسلمين تحت احتلال الكافر المستعمر عمَد وفق قاعدته الاستعمارية "فرّق تسد" إلى تفتيت البلاد الإسلامية، وبخاصّة بلاد العرب، إلى دويلات صغيرة. وترسيخا لهذه الدويلات المصطنعة على الأرض، وتعزيزا لشرعيتها داخل الرؤوس والنفوس، عمد إلى تأسيس "هُوِيّات" جديدة لكلّ منها تُفرّق الأمّة ذات "الهُويّة" الواحدة إلى "هُويّات" شتّى. فبعد ابتذال "الهُويّتين التركية والعربية" أتبعوها بـ"الهويّة الكردية"، و"الهويّة الفارسية"، ثم نبشوا للمصريين "الهويّة الفرعونية"، وللسوريين "الهويّة الآرامية"، وللعراقيين "الهويّة البابلية"، وللّبنانيين "الهويّة الفينيقية"، وللأكراد "الهويّة الكردية"، وللتونسيين "الهويّة القرطاجية الفينيقية"، ثمّ استفزّوا في البربر ما سمّوه بـ"الهويّة الأمازيغية". وجعل الكافر المستعمر من أعلام تلك الدويلات وما تحويه من شعارات ورموز "هُويّاتٍ بصرية" لكلّ منها، بل وزاد عليها "هُويّات سمعية" هي الأناشيد الوطنية، و"هُويّات تاريخية" إذ أنشأ لكلّ دولة تاريخا خاصا بها يَفصلها عن "هُويّتها التاريخية" الإسلامية، فنسبَ كُلّا منها إلى حضارات بائدة عبرت بلادها قبل تاريخها الإسلامي. وهكذا جعل الأمّةَ ذات "الهُويّة الواحدة" أمماً ذات "هُويّات شتّى"، وبات سجناء هذه السجون المسمّاة دولاً يعرفّ كلّ منهم نفسه بأنّه سوري أو عراقي أو لبناني أو مصري أو فلسطيني أو أردنّي، بعدما كانوا جميعا يعرّفون أنفسهم بأنّهم مسلمون "هُويّتهم الإسلام"، وبأنّهم ينتمون إلى حضارة واحدة هي الحضارة الإسلامية.

 

حين انطلقت ثورة الشام منذ أربعة عشر عاما رفع ثوّارها المنطلقون من المساجد شعارات إسلامية تعبّر عن "هُويّتهم" الحقيقية، وانقاد لها سائر أهل سوريا ومَن ناصرهم، وضحّوا بأرواحهم ودمائهم وأموالهم من أجلها: "هي لله هي لله"، "لا شرقية ولا غربية إسلامية إسلامية"، "قائدنا للأبد سيّدنا محمّد"، "الشعب يريد تحكيم شرع الله". وسرعان ما توارت الفصائل التي حملت عناوين وطنية وعلمانية لينقاد الثوّار للفصائل التي تعلن "إسلامية هُويّتها" وتعلن أنّ غايتها إقامة نظام إسلامي على أنقاض نظام الكفر البعثي الأسدي، وتحتضن المجاهدين من أرجاء البلاد الإسلامية الذين وفدوا مستبشرين ككثير من المسلمين في أرجاء الدنيا بقرب قيام دولة الإسلام في عقر دار المؤمنين بالشام. والفصيل نفسه الذي تولّى السلطة في دمشق عقب سقوط الطاغية كان أوّل نشأته ولسنوات عدّة أكثر الفصائل المقاتلة إعلانا للمشروع السياسي الإسلامي، بل لطالما هاجم بعض الفصائل الثورية وقاتلها تحت ذريعة انحرافها عن المشروع الإسلامي وولائها للأنظمة الإقليمية أو تعاملها مع دول كبرى. ولكنّ الصدمة كانت أنّه حين تسلّم الحكم نقض غزله من بعد قوّة أنكاثا، وانقلب على وعوده وشعاراته، وكرّس النظام العلماني، ووالى أشدّ الدول والأنظمة عداوة للأمّة، في الوقت نفسه الذي ترتكب فيه هذه الدول أبشع المجازر بحقّ المسلمين في غزّة. ومنذ أيّام أتحفنا بإعلان ما سمّاه زورا بـ"الهُويّة البصرية" لسوريا الجديدة. فما دلالة هذا الإعلان؟

 

لقد كان أهونَ وأخفّ وطأةً لو أنّ إعلان هذا الشعار الجديد خلا من مصطلح "الهُوِيّة". فاعتماد مصطلح "الهُويّة" لم يأت عبثا، وإنّما جاء يحمل دلالات غاية في الخطورة. إذ إنّه جاء ليقطع الطريق على إعلان "الهُويّة" الحقيقية الوحيدة لأهل سوريا وسائر المسلمين في العالم كلّه، فضلا عن أنّه مُرّر اتّكاءً على عدم إدراك عامّة أهل سوريا وعامّة المسلمين في العالم لدلالة هذا المصطلح: "الهُويّة".

 

إنّ "الهُويّة" مصطلح معاصر، بموجبه عُرّفت بأنّها "الخصائص والسمات والمعتقدات والقيم المميّزة التي تُعَرِّف الشخص أو المجموعة، وتشكّل تفرّدهم وإحساسهم بالذات". وعرّفها الشريف الجرجاني في كتابه التعريفات بأنّها "الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة". وعليه فإنّ "هُويّة الدولة" إنّما تتكوّن من: العقيدة التي قامت على أساسها، ووجهة نظرها في الحياة، والحضارة التي تنتمي إليها، والأمّة التي تمثّلها، ونظامها التشريعي الذي ينظم علاقات الناس فيها، والرسالة التي تحملها إلى البشرية. وإنّ هذه "الهُويّة" لا يُعبَّر عنها بصورة طائر من الطيور. وأنكى من ذلك أن تُشرح الرموز التي تضمّنتها هذه الصورة شرحا يصرف الأذهان عن "الهُويّة الإسلامية". فالنجوم الثلاث هي نجوم العلم السوري الوطني القُطري الذي أقرّه المفوّض السامي للاحتلال الفرنسي هنري بونسو سنة ١٩٣٢م. وسائر رموز الشعار ترمز إلى الجهات الجغرافية لهذه الدولة القُطرية، وإلى تقسيماتها الإدارية، أي محافظاتها! وإنّه لأمر سخيف جدّا أن يُعدّ التقسيم الإداري لدولة ما جزءا من "هُويّتها"! والأخطر في توصيف هذا الشعار هو ما صرّح به حاكم الدولة في خطابه في حفل إعلان هذه "الهُويّة" المزوّرة.

 

أهمّ ما ورد في خطاب حاكم سوريا الجديد وأخطره هو عَزْو "هُويّة" أهل سوريا إلى حضارات ما قبل الإسلام بآلاف السنين! وعليه فحضارتهم ليست الحضارة الإسلامية، و"هُويّتهم" ليس منطلقها الإسلام، وإنّما "هُويّتهم" نتاج حضارات شتّى تعاقبت على أرض الشام منذ آلاف السنين، دونما التفاتٍ إلى "هُوِيّات" هذه الحضارات الدينية والعقدية والثقافية والتشريعية... فالهُوِيّة في نظره "هُويّة جغرافية تاريخية"، حصّة الإسلام وثقافته وتشريعه فيها أنّها إحدى حلقاتها وبعضٌ من مكوّناتها لا أكثر ولا أقلّ، وما يؤكّد هذا المعنى تعابيره المختارة بعناية عن "سوريا عبر التاريخ"، و"تنوّعها الثقافي"، و"شخصيّة سوريا"، بدلا من أن يكون الإسلام هو "هُويّتها وثقافتها وحضارتها وشخصيّتها". ثمّ إن تكرار تعابير من مثل "الشعب السوري" وأن "الهُويّة الجديدة" هي "هُويّة هذا الشعب" تأكيد آخر على "هُويّة خاصّة" بأهل سوريا من دون الناس، مع أنّ الله تعالى قضى ونبيُّه ﷺ أنّ المسلمين جميعا أمّة من دون الناس. فـ"هُويّتهم" واحدة هي "الهُويّة الإسلامية"، و"شخصيّتهم" واحدة هي "الشخصيّة الإسلامية"، وإذا قامت لهم دولة في قطر من الأقطار وجب العمل على إلحاق سائر الأقطار بها ليكون المسلمون جميعا أمّة واحدة، في دولة واحدة وتحت راية واحدة.

 

ومن أخطر المصطلحات التي وردت في خطاب حاكم سوريا تعبير "الإنسان السوري"! فهذا تعبير من أخطر التعابير التي يأباها حتّى كثير من المثقّفين والسياسيين العلمانيين والغربيين. فهذا النوع من التعابير إنّما يعتمده العنصريون العِرقيون والقوميون الذين يصنّفون الناس وفق انتماءاتهم العنصرية. فهو تعبير النازيين الذين تكلّموا عن "الإنسان الآري الأرقى"، وتعبير الصهاينة الذين يتكلّمون عن العبرانيين شعب الله المختار! فهل خلق الله سبحانه إنسانا سوريا وآخر لبنانيا وآخر فلسطينيا وآخر أردنّيا وآخر عراقيا...؟! أين حاكم سوريا من قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، ومن قول النبي ﷺ: «يا أيُّها النَّاسُ، ألَا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألَا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على أعجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عرَبيٍّ، ولا أحمَرَ على أسوَدَ، ولا أسوَدَ على أحمَرَ إلَّا بالتَّقْوى...»؟!

 

الحقيقة أنّ حاكم سوريا حين قال إنّ "هُويّة دولته" تَستمدّ سماتها من الطائر الجارح كان صريحا بأنّه أراد لدولته أن تكون "بلا هُويّة". فلم تُعرِّف دولةٌ يوماً "هُويّتها" ولا "هُويّة شعبها" بتعريفات من مثل: القوّة، والعزم، والسرعة، والإتقان، والبصر الحادّ، والقنص الذكيّ، والابتكار في الأداء، والمناورة البارعة، والسباحة في الفضاء، والتحليق في العلياء، والمهارة في الصيد، واحتراف الانقضاض، وحماية الأهل، والمعدن النقي الصافي! بل بمنتهى الصراحة؛ لو قرأ جاهليٌّ كعنترة بن شدّاد وحاتم الطائي وسيف بن ذي يزن هذه الصفات لوجدها أصدق تعبير عن صفاته وصفات كلّ عربي شهم ذي مروءة من عرب الجاهلية قبل نزول الوحي على خاتم النبيّين ﷺ. فإذا كانت هذه هي "الهُويّة" فمن أجل ماذا بعث الله تعالى نبيّه ﷺ؟ ومن أجل ماذا أقام ﷺ دولة ذات "هُويّة" أجلّ وأعزّ وقاتل بها عرباً حَوَوا في معدنهم عناصر "هويّتكم" الفارغة هذه، ثمّ قاتل دولا ذات "هُويّات" شتّى لإعلاء "هُويّة" واحدة في أرض الله، هي "الهُويّة الإسلامية"؟! أم تراكم نسيتم قول الله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ﴾؟! إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

أحمد القصص

عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

 

 

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع