- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الدولة المدنية طاغوت فشلت في إقامة العدل في عقر دارها، فكيف تنجح في دارنا؟!
أعلن رئيس الوزراء السوداني، كامل إدريس في مؤتمر صحفي، عن تشكيل حكومة جديدة تحمل اسم "حكومة الأمل"، مكونة من 22 حقيبة وزارية، وفي خطاب سمي (تاريخي)، كشف فيه ملامح حكومة الأمل التي سماها حكومة مدنية، وقال إنها تستند إلى رؤية واضحة ومبادئ راسخة لإنقاذ السودان، ووضعه على طريق التقدم والازدهار، وتحقيق الأمن والرفاه، والعيش الكريم لكل سوداني. وحدد أن الرؤية تتمثل في الارتقاء بالسودان إلى مصاف الدول المتقدمة. والقيم هي الصدق، الأمانة، العدل، الشفافية، التسامح، والمنهج علمي، عملي، مهني، جماعي، بخطط واضحة ومعايير دقيقة للنجاح. والحكومة ستكون تكنوقراط بلا انتماءات حزبية، تمثل صوت الأغلبية الصامتة، وتزاوج بين الزهد في مظاهر السلطة ورفاه الشعب، وتجسد الفضائل العليا.
تحدث رئيس الوزراء عن نتائج مرجوة لحكومته المدنية، مع ذكر الصدق والأمانة والعدل وغيرها وتدعيم ذلك بالآيات القرآنية، وهذا الخلط المتعمد للمفاهيم المتباينة لكسب رأي عام داعم، أما الحقيقة التي لا بد أن تعيها أذن واعية فتحتاج إلى تفاصيل وتعمق بعيداً عن المشاعر والأماني، فالسياسة يجب أن تبنى على الحقائق بعيدا عن التضليل.
إن الناظر إلى بلاد المسلمين بما فيها السودان، يجد أن الدول القائمة فيها هي نتاج اتفاق بين دول الاستعمار القديم لاقتسام النفوذ عام 1916م، وهي دويلات وظيفية، صُنعت لتقوم بعمل محدد، ولم تكن موجودة إلا بهذه الاتفاقية، وظلت هذه الدول تابعة للرأسمالية الغربية التي أوجدتها، وطوال فترة وجودها ظلت تتنافس على تصدر قائمة الفاشل كل عام وقد أثبتت بجدارة الفشل الذريع على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مهما تغيرت الحكومات والوزراء والحكام، فأين الخلل إذا؟ ولماذا تزخر هذه البلاد بمواردها البكر المتعددة ويعيش إنسانها الفقر المدقع؟!
إن من عظيم ما فتن به المسلمون في عصرنا هذا هي الأفكار، والمفاهيم المتعلقة بالحكم والاقتصاد، ولعلها هي محط تركيز الغرب في هجومه على الإسلام وفي تركيزه لهيمنته وسيطرته السياسية والفكرية والاقتصادية.
تعود جذور فكرة الدولة المدنية إلى العصور القديمة، حيث يربطها الغربيون بمبادئ العدالة وحكم القانون في الحضارة الإغريقية، من خلال نظام الحكم الديمقراطي في أثينا الذي ركز على مشاركة الناس في صنع القرار، ثم تطورت هذه المفاهيم مع الرومان الذين وضعوا أسساً قانونية متقدمة لتنظيم شؤون المجتمع، ما ساهم في تشكيل وبلورة ما يسمى بفكرة دولة القانون.
ومع تطور الفكر السياسي في العصور الوسطى للغرب الكافر، تأثرت الدولة المدنية بالصراع بين الكنيسة والدولة في أوروبا وأدى هذا الصراع إلى تعزيز مبدأ الفصل بين الدين والسياسة، خصوصاً بعد عصر النهضة والثورة الفرنسية حيث تصاعدت الدعوات لتأسيس دول تقوم على احترام الحريات الفردية والمساواة أمام القانون دون تدخل الدين في الشؤون السياسية. وفي العصر الحديث تبنتها الدول الغربية وزعيمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
وهنا ينشأ سؤال منطقي بوصفنا مسلمين ولنا إرث حضاري مختلف وتاريخ لا يشبه هذا التاريخ، ضاربة جذوره في التاريخ، حيث إن النبي ﷺ؛ مؤسس دولة الإسلام في المدينة المنورة ومن بعده الخلفاء الراشدون ثم الدولة الأموية والدولة العباسية ثم الدولة العثمانية، كل ذلك إنما هو نماذج للحضارة الإسلامية وعراقتها ولحكم الدولة الإسلامية مما لا تخطئها العين.
ولكي نتعمق أكثر لا بد من معرفة مبادئ الدولة المدنية وما يقابلها في حكم الإسلام:
تقوم الدولة المدنية على مجموعة من المبادئ الراسخة التي تهدف إلى تحقيق العدل من منظور الغرب الرأسمالي، وذلك بفكرة المساواة وحماية حقوق الأفراد، وتمثل هذه المبادئ الركائز الأساسية لهذه الدول، أما في الإسلام فالسيادة للشرع قطعا، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ وقال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾ وقال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
فهذه نصوص من كتاب الله قطعية الثبوت والدلالة لا مجال لإنكارها، كلها تصب في مقولة واحدة بكل جلاء، مفادها أن السيادة للشرع وليس للعقل، لله تعالى وليس للشعب.
ويعتقدون في الدولة المدينة حسب مبدأ السيادة للشعب أنهم بذلك ضمنوا تحقيق العدل والمساواة في المجتمع، ويمنعون أي تجاوزات أو استغلال للسلطة وبذلك تكون سيادة القانون هي التي تجعل الحكومة خاضعة للقواعد القانونية وتفرض آليات لمساءلة المسؤولين ما يقوي الثقة بين الشعب والدولة، رغم أن واقعهم اليوم يتنافى مع ذلك وهو موغل في تحكم رجال المال والأعمال في الحكم والسياسة، وعامة الشعب مجرد تبع خاضعون لهم.
ويظهر أن قاعدة "السيادة للشرع" جعلت نظام الحكم في الإسلام يتفرّد بتحقيق المعنى الجميل لسيادة القانون. هذا المعنى الذي توهّم دعاة الدولة المدنية أنهم حققوه، بينما هم في الواقع جعلوا السيادة نظريا للأغلبية على الأقلية (وعمليا لقلة قليلة من المتنفذين الرأسماليين). فالأغلبية هي من تضع القانون وهي من تغيره، فكيف يكون القانون سيدها؟! أما الإسلام فضمن بإبعاد التشريع عن هوى الإنسان، ضمن ألا يستعبد القوي الضعيف، ولا الغني الضعيف، بل الجميع يخضع لشرع الله سبحانه.
ويتجلى ذلك في منظومة الحكم، فقد أنشأ الشارع أوامر ونواهي في شتى مجالات الحياة وجعل سبحانه وتعالى سلطان التنفيذ للأمة (اقطعوا، اجلدوا،...)، تختار من بينها، بعقد البيعة عن رضا واختيار، من ينفذ عليها الأحكام الشرعية.
أيضا الدولة المدنية تعطي أهمية كبرى لحماية حقوق الإنسان وضمان الحريات الفردية، وتشمل هذه الحقوق حرية العقيدة وحرية الرأي والحرية الشخصية وحرية التملك.
والحقيقة أن هذه الأفكار بمعناها الحقيقي، لا رواج لها في أوساط المسلمين وأن سبب بروزها كألفاظ في ساحة المسلمين هو عدم الوعي على حقيقتها وإدراك واقعها باعتبارها وجهة نظر مخالفة للإسلام جملة وتفصيلا بعيداً عن الدعايات المضللة، فبرزت هذه الأفكار، وتصدّرت الثورات كشعارات تعبر عن رفض الظلم وتقييد الحريات الذي مورس على أبناء المسلمين من الحكام عملاء الغرب الكافر وأعوانهم، لكن أي مسلم يعلم أنه مقيد بشرع الله وأوامره ونواهيه.
إن الإسلام عقيدة تقتضي شريعتها الكاملة العامة تنظيم جميع مناحي الحياة بغير استثناء، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً﴾.
إن المسلمين لهم مشروع حكم أنزله الله وأسسه رسوله ﷺ، في دولة المدينة، نظام الحكم الذي يطبق به الإسلام فيسود العدل والإنصاف، فنعود كما كنا مسلمين لرب العالمين، حاملين مشاعل الهداية بدلا من تقليد الرأسماليين الفاشلين.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
غادة عبد الجبار (أم أواب) – ولاية السودان