- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الغاية من خلق الإنسان ومأساة الجهل بها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الرسل والأنبياء أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. إن الإنسان المخلوق الذي كرّمه الله بالعقل، قد جعله مختلفاً عن سائر المخلوقات. فقد قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾. وهذا التكريم بالعقل لم يكن عبثاً، بل لأجل أن يكون الإنسان محلّاً للتكليف، مسؤولاً عن اختياره، مأموراً بأن يعبد الله بإرادته وبصيرته لا كرهاً ولا جبراً.
من هنا جاءت الرسالات السماوية لتُعلِّم الإنسان معنى العبودية لله تعالى، فجميع الأنبياء والرسل جاؤوا لأداء رسالة واحدة: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾
1. العبادة
2. الاستخلاف في الأرض
3. العمارة
4. الدعوة والشهادة
لا تكتمل إلا إذا عاشت الأمة في ظل دولة تطبق الإسلام، وتحمل رسالته إلى العالم، وتدعو الناس بالبيان والبرهان، وتحمي دعوتها بالسنان، فيكون الدين كله لله، وتتحقق الغاية من خلق الإنسان.
إن أعظم سؤال يجب أن يُطرح على كل إنسان: لماذا خُلقنا؟ ما الغاية من وجودنا؟ وما الهدف من هذه الحياة؟ وللأسف فإن أكثر الناس اليوم يعرفون المصطلحات دون إدراك جوهرها، يعرفون أن الغاية من خلق الإنسان هي العبادة، والاستخلاف، والإعمار، والدعوة... ولكن دون فهم عميق أو تطبيق واقعي، فتحوّلت هذه المفاهيم إلى شعارات جوفاء لا تُنتج سلوكاً، ولا تُنير طريقاً!
وهذا هو الخطر الحقيقي: أن تعرف شيئاً من حيث اللفظ، ولكنك تجهله من حيث الحقيقة والمضمون، وهذا ما أدى إلى الضياع والتخبط والاضطرابات النفسية والفكرية في مجتمعاتنا، لأن الإنسان الذي لا يعرف لماذا وُجد، سيعيش بلا وِجهة، وسيقوده الضياع إلى كل وادٍ من وديان الباطل والعبث.
أولاً: العبادة - جوهر العلاقة بالله
الله سبحانه وتعالى هو خالق الإنسان، والكون، والحياة، وخلق كل شيء بحكمة. قال تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾.
فكل شيء في هذا الكون في طاعة وتسبيح لخالقه، فهذا الكون العظيم، بما فيه من مخلوقات وكائنات، يسبّح الله تعالى ويعبده تسبيحاً لا نفقهه نحن، كما أخبرنا سبحانه: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ فكل ما في الوجود - من شمس وقمر ونجوم وهواء وماء... - يسير بأمر الله ووفق سننه الكونية، دون أن يتخلف عن طاعته قيد شعرة: ﴿لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.
أما أنت أيها الإنسان فقد خُلقت لتعبد الله وحده، عبادة شاملة تشمل الصلاة والصيام، وتشمل العمل، والموقف، والحكم، والسياسة، والولاء والبراء...
فالعبادة ليست مجرد طقوس ظاهرة، بل هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، الظاهرة والباطنة. وهي شاملة لكل سلوكيات الإنسان في حياته كلها: في معاملاته، وعلاقاته، وأخلاقه، ونظامه، وولائه، وعداوته، يجب أن تكون كلها وفق ما أمر الله تعالى.
فحين يتحرك الإنسان في حياته على أساس عبوديته لله، ويجعل كل أقواله وأفعاله ضمن مفهوم العبادة، فإنه يرتقي إلى أسمى المراتب، ويحقق الغاية التي خُلق من أجلها: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾.
فليكن همّنا أن نكون عباداً لله بحق، كما أراد منا خالقنا، لا كما تهوى نفوسنا أو تُملي علينا حضارات مادية لا تعبد إلا شهواتها، فليست العبادة طقوساً شعائرية فقط، بل هي حياة كاملة تُبنى على طاعة الله وتحكيم شرعه. فمن يقصرها على المسجد فقط، فقد ابتعد عن مفهومها القرآني.
ثانياً: الاستخلاف - حمل الأمانة وبناء الحكم بما أنزل الله
قال الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، فالخلافة في الأرض تعني أن يحمل الإنسان مسؤولية تنفيذ أمر الله وتحكيم شريعته، في كل جوانب الحياة، لا أن يعيش تابعاً للغرب، ولا أن يُحكم بأنظمة الكفر، ولا أن يُرضي الحكام الفاسدين على حساب دينه وأمته.
الاستخلاف هو نظام حكم، هو سياسة واقتصاد واجتماع تُبنى على العقيدة، وليس مجرد وجود بشري على الأرض. وهو ما افتقدته الأمة بهدم الخلافة، فضعفت، وتفرقت، واستُبيحت دماؤها.
فخلق الله سبحانه وتعالى الإنسان لعبادته وعمارة الأرض، وجعل الغاية من وجوده هي إقامة دين الله وتطبيق شريعته. ومن تمام هذه الغاية أن تُقام الخلافة، فهي الكيان التنفيذي الذي تُنفّذ به أحكام الإسلام، وتُرعى به شؤون الناس. قال الله عز وجل: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾. فالله جل وعلا لم يجعل داود عليه السلام خليفة لمجرد العبادة الفردية، بل ليحكم بالحق ويقيم العدل، وهذا لا يكون إلا بسلطان يُقيم الدين ويحكم بشرع الله.
فالخلافة هي رئاسة عامة للمسلمين لتطبيق الإسلام في الداخل ونشره إلى الخارج بالدعوة والجهاد، وهي النظام الذي تُحل به النزاعات، وتُقام به الحدود، وتُرعى به الشؤون: في التعليم، والاقتصاد، والصحة، والسياسة، وغير ذلك. فبدون الخلافة يسود الظلم، ويضيع الحق، وينتشر الربا والزنا والجهل والفقر، وتنهار القيم، حتى الناحية الروحية؛ العبادة ذاتها، تتأثر بانعدام الدولة التي ترعى أمور الناس وتحقق لهم الاستقرار والأمان. قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾. فإقامة الصلاة تعلّقت بأسباب دنيوية، كالأمن والرزق، وهذه الأسباب لا تُنظَّم إلا بدولة ترعى مصالح العباد بما أنزل الله.
أما الأمر الثالث، فهو العمارة، فالإعمار هو إصلاح الأرض لا إفسادها، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ والإعمار ليس بناء العمارات فحسب، بل هو عمارة الأرض بالصلاح، بإقامة العدل، بنشر القيم، بتمكين شرع الله، لا بالنظام الرأسمالي ولا بنظام القوانين الوضعية.
فكل إعمار لا يُبنى على طاعة الله، فهو خراب، ولو بدا زاهياً في الظاهر، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليكون عبداً له ومستخلفاً في الأرض، أي ليقوم بمهمة إعمار الأرض وفق منهج الله، لا وفق أهوائه ورغباته. قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾. فالملائكة علموا أن البشر إذا تُركوا بدون منهج إلهي ودون نظام يضبط سلوكهم، فإنهم سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وهذا ما نراه اليوم واقعاً ملموساً.
لذلك فإن غاية الخلق ليست العبادة فقط، بل أيضاً العمارة على أساس الصلاح، أي وفق أحكام الإسلام، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال وجود دولة تطبق الإسلام، أي الخلافة الراشدة. فبدون الخلافة لا يتحقق صلاح الأرض، ولا تنتظم العبادة، ولا تُحمى الدماء، ولا تُحفظ الأعراض، بل تعم الفوضى ويسود الفساد وتُستباح الحقوق، وتتحول المجتمعات إلى غابات يأكل فيها القوي الضعيف.
إذن فـالعمارة الحقيقية للأرض لا تكون إلا بالخلافة، كما أن العبادة لا تنتظم إلا بالخلافة، وبدونها تفسد البشرية وتسقط في الانحلال والهمجية، وهذا هو حال العالم اليوم.
أما الأمر الرابع: الدعوة والشهادة
قال الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ فغاية بعثة الرسول ﷺ هي دعوة الناس كافة إلى دين الله، وهكذا كانت مهمة الأمة الإسلامية من بعده، أن تواصل هذه الدعوة لتكون رسالة الإسلام للعالم كله.
فالدعوة إلى الإسلام ليست مهمة اختيارية، بل هي أصل من أصول الرسالة، وهي غاية من غايات الخلق، كما أن إقامة الحجة على الناس لا تكون إلا بإبلاغهم دعوة الإسلام، وهذه المهمة العظيمة لا يمكن أن تؤدى كما يجب إلا من خلال دولة تحمل الدعوة إلى العالم، وتنشر الإسلام بالجهاد، ليكون الدين كله لله، لا يُعبد غيره، ولا يُطاع في الأرض سواه.
قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ وهذه الشهادة على الأمم لا تتحقق بكلام فردي أو بنشاط عاطفي، بل تتحقق بحمل الإسلام عملياً من خلال دولة الخلافة التي ترسل جيوشها بالحق، لا لاحتلال الشعوب، بل لتحريرها من عبودية البشر إلى عبودية رب البشر.
وكذلك نشر الدعوة لتطبيقها في أرض الواقع في عهد الدولة يحتاج إلى قوة تحميها، وجهاد ينصرها، وشهادة تقيم الحجة، ولذلك فإن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد قتال، بل هو الطريقة العملية لحمل الإسلام إلى العالم، وفتح القلوب له، وكشف زيف الأنظمة الباطلة التي تستعبد البشر وتصدهم عن دين الله.
فالأمة الإسلامية مسؤولة عن تبليغ رسالة الإسلام للعالم، وهي ليست أمة منغلقة، بل أمة رسالة. ولكن حين تخلت عن هذه الوظيفة، وتفرغت للدنيا واللهث وراء الغرب، صارت ذليلة، مستضعفة، لا هي نالت رضا الله، ولا احترمها أعداؤها.
إن الغاية من خلق الإنسان ليست فلسفة ولا ترفاً فكرياً، بل هي من أعظم قضايا الوجود. ولا بد أن ندرك أن الإسلام جاء ليحكم الحياة كلها، وليس ليُحبس في قلوب العابدين ولا في مساجد الخاشعين.
وما لم ترجع الأمة لتحقيق هذه الغايات كما أمر الله، فلن تتغير أحوالها، ولن تنهض من سباتها. وقد آن لنا أن نعيد فهم هذه الغايات بعمق، ونحوّلها إلى وعي، وسلوك، وحركة، نحو التغيير الجذري بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
فالوعي على الغاية هو بداية الطريق... ومن ضل الغاية، تاه في الفروع والهوامش، ولو ظن أنه على الحق.
فكيف للناس أن يعبدوا الله حق عبادته وهم يجهلون الأحكام؟ وكيف يخلصون في صلاتهم وهم مظلومون جائعون، لا يأمنون على أنفسهم؟ وكيف يتحقق الشكر لله وهم محرومون من الثروات والخيرات التي سخرها لهم؟!
إن واقع المسلمين اليوم، من ضياع وفقر وفساد، هو الشاهد الأكبر على أن ضياع الخلافة أدى لضياع العبادات، وأفسد الحياة في كل جوانبها. ولهذا، فإن العمل لإعادة الخلافة ليس مجرد ترف سياسي أو طموح تنظيمي، بل هو فرض شرعي وضرورة حتمية لإقامة الدين، وضمان تحقق العبادة في واقع الناس، على الوجه الذي يُرضي الله سبحانه وتعالى.
فالخلافة ليست فقط تاج الفروض، بل هي الحامية لكل الفروض، وبدونها تضيع الأمة، وتضيع عبادتها، ويضيع دينها.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
معمر الحمري – ولاية اليمن