- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2025-12-24
جريدة الراية :الدعاة بين قبضة السيسي
ومقتضيات الشرع
شهدت الساحة المصرية مؤخراً إعلان برنامج تدريبي ممتد لعامين داخل الأكاديمية العسكرية، موجَّه إلى دعاة ووعاظ من وزارة الأوقاف يحملون درجة الدكتوراه. البرنامج قُدّم إعلامياً على أنه نقلة نوعية في "تجديد الخطاب الديني" وتعزيز "الفكر المستنير". وفي أثناء لقائه بهؤلاء الدعاة، أدلى الرئيس المصري بتصريحات ركّز فيها على أن الدعاة "ليسوا حراساً للدين فقط، بل حراس للحرية"، وأن الإنسان يمتلك "حرية الاختيار في الإيمان".
هذه العبارات ليست مجرد ملاحظات عابرة، بل تحمل دلالات سياسية وفكرية عميقة، وتتّسق مع مسار واضح تتبناه الدولة منذ سنوات في التعامل مع الدين، وضبط الخطاب الشرعي، وإعادة تشكيل الوعي العام وفق رؤيتها، وبما ينسجم مع المعايير الغربية فيما يسمّى "قضايا الحريات الدينية"، والتي تُعد أحد أهم الشروط السياسية والدبلوماسية التي تُطرح في العلاقات مع الغرب.
لماذا الأكاديمية العسكرية؟
إلحاق الدعاة بدورة تمتد لعامين داخل مؤسسة عسكرية، وليس في جامعة أو معهد شرعي، يحمل رسالة واضحة هي أن الدولة لم تعد تنظر إلى الدعاة بوصفهم علماء يبلّغون أحكام الشرع، بل كوادر وظيفية تُعاد صياغة ولائها وتوجيه خطابها بما يخدم استراتيجية السلطة. مظاهر ذلك تتضح في أمور:
1. عسكرة الخطاب الديني بدمج الدعاة داخل منظومة عسكرية ذات طبيعة انضباطية لغاية إعادة تشكيل شخصياتهم على أساس الطاعة والتسليم، وتحييد دورهم الدعوي الأصلي وتحويلهم إلى أدوات ضبط مجتمعية، وصنع دعاة لا يتحركون وفق النصوص الشرعية بل وفق سياسات الدولة.
2. تكريس المرجعية السلطوية بدل المرجعية الشرعية في دراسة تمتد لعامين تحت إشراف جهات غير شرعية تعني أن المرجعية المعتمدة للداعية لم تعد الشرع، بل النظام، وهذا ينسجم مع فلسفة السلطة التي تتعامل مع الدين بوصفه مكوّناً ثقافياً يجب تدجينه، لا منظومة ربانية شاملة ملزمة للحاكم والمحكوم.
3. هندسة وعي ديني جديد عبر مناهج توصف بأنها "أعلى من الدكتوراه"، يحاول النظام إضفاء هالة أكاديمية على هذا المشروع، بينما الهدف الحقيقي هو صناعة جيل من الدعاة ينشر خطاباً دينياً منزوع المخالب. مفاهيم متصالحة ومنسجمة مع العلمانية، مع تبريرات شرعية للواقع القائم وسياسات الدولة، ونماذج طاعة سياسية مغلفة بلغة دينية. وبهذا تتحول مهمة الداعية من تبليغ الحق إلى حماية السردية الرسمية.
حرية الاعتقاد هل هي من الإسلام؟
تصدّر الرئيس في خطابه الحديث عن أن الإنسان يمتلك "حرية الاختيار في الإيمان"، وأن الدعاة يجب أن يُروّجوا لهذه الفكرة بوصفها قيمة إنسانية عليا. ولكن يجب التفريق شرعاً بين حقيقتين:
1. حرية الاختيار بين الإيمان والكفر، أي أن الله لم يُكره الناس على الإيمان قهراً: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ هذه آيات تتحدث عن الترك الأول وليس الإباحة الشرعية. فالعبد يملك أن يختار الكفر، لكن لا يباح له شرعاً أن يختاره. فبقاؤه على الكفر معصية واختياره للكفر معصية وإن حرم إكراهه على الإيمان.
2. الحكم الشرعي الذي يضبط المجتمع الإسلامي، فقد جاء الإسلام بأحكام واضحة في منع التعدي على عقيدة الأمة، وتحريم الدعوة للكفر داخل المجتمع الإسلامي، ومنع الردّة أو نشر أي أفكار تهدم العقيدة. مع وجوب حماية الدين باعتباره أحد الضرورات. فالإنسان يملك حرية الاختيار من حيث الواقع، لكنه لا يملك شرعية الاختيار من حيث الحكم. أما الخطاب الذي يروّج لحرية الاعتقاد كقيمة مطلقة فهذا خطاب علماني بامتياز، يتعارض مع الإسلام، ومع وظيفة حامل الدعوة التي هي البلاغ والبيان والإنكار، وليس التسويق لفكرة أن الإيمان مجرد خيار شخصي قابل للتفاوض. بهذا يتضح أن النظام يحاول إعادة تفسير النصوص بما يتناسب مع المعايير الغربية لا مع الأحكام الشرعية.
لماذا يركّز السيسي على حرية الاعتقاد أمام الغرب؟
خلال العقد الأخير، أصبح تجديد الخطاب الديني أحد الملفات التي تقدمها الأنظمة العربية إلى الغرب، بهدف:
1. نيل الشرعية الدولية؛ فالغرب يتبنى سياسة ربط التعاون السياسي والاقتصادي بملف الحريات الدينية، ورقابة الدولة على الخطاب الديني، ومكافحة ما يُسمّى "التطرف الفكري". لذلك، يظهر النظام نفسه أمام الغرب باعتباره الأكثر جرأة في إخضاع المؤسسات الدينية، والقادر على إعادة تشكيل الإسلام بما يتماشى مع القيم الغربية، واللاعب الذي يقدّم نفسه كدرع ثقافي في مواجهة "الخطر الإسلامي"، ورأس الحربة التي يوجهها الغرب للأمة في صراعه مع الإسلام.
2. إرسال رسالة: "نحن البديل الآمن"؛ فحين يقول السيسي إن الدعاة "حراس للحرية لا للدين فقط" فهو يخاطب الغرب أكثر مما يخاطب الداخل، ليقول لهم نحن قادرون على تقديم إسلام جديد غير صدامي، منضبط، بعيد عن السياسة، خادم للاستقرار الذي تريدونه.
3. استخدام ملف الدين كورقة ضغط داخلية وخارجية. ففي الداخل يتم احتكار الخطاب الشرعي عبر وزارتي الأوقاف والأزهر لضمان عدم خروج خطاب يزعج الدولة. وفي الخارج يُستخدم الخطاب ذاته لإثبات "التقدم" في ملفات يراها الغرب حساسة، ما يسهل الحصول على الدعم السياسي والمالي.
ما هي النظرة الصحيحة لمحاولة إعادة تشكيل الدين لخدمة السلطة؟
إن تبديل أحكام الإسلام من أعظم صور الانحراف، وجعل الدولة حَكَماً على النصوص اعتداء على حق الله في التشريع، وتوجيه الأئمة لخدمة السلطة خروج عن مهمة البلاغ والأمر بالمعروف.
حامل الدعوة في الإسلام دوره هو قول الحق مهما خالف السلطة، ومواجهة الظلم لا تبريره، وحفظ العقيدة لا إعادة صياغتها ولا هندستها وفق رؤية الغرب، ونشر الإسلام كما هو، لا كما يريد الحاكم أو الغرب. أما الإمام وحامل الدعوة الذي يُصنع في بيئة سياسية محكمة تفرض عليه مفاهيم جاهزة، فإنه يفقد أهم خصائصه؛ الاستقلالية الشرعية.
البرنامج التدريبي للأكاديمية العسكرية، وما رافقه من تصريحات حول "حرية الاختيار في الإيمان"، ليس عملاً علمياً بريئاً ولا خطوة إصلاحية في مجال الدعوة كما يُروَّج، بل هو جزء من مشروع متكامل لإعادة تشكيل بنية الوعي الديني في مصر، وتحويله إلى خطاب علماني محسوب، يُستخدم داخلياً لضبط المجتمع، وخارجياً لكسب رضا القوى الغربية. وهذا المسار يصطدم بوضوح مع أحكام الإسلام ومع طبيعة الخطاب الشرعي الذي يأبى التكيّف مع السلطة أو الانصهار في نظام سياسي لا يحكم بالإسلام. ومن هنا تأتي ضرورة أن يكون عند الأمة وعيٌ كافٍ بأن الدين لا يُحمى داخل الثكنات، وأن الدعاة لا يصنعون بقرارات سياسية، وأن الإسلام ليس مادة قابلة للقولبة، إنما هو وحيٌ يُتلى، وأحكامٌ تُطبّق، وأمةٌ تُحمَل على النهوض به لا على إعادة صياغته ليتوافق مع شروط المانحين ورضا الغرب!
يا علماء الكنانة: لقد أخذ عليكم الميثاق أن تبيّنوا الحق ولا تكتمونه، وأن تكونوا لسان صدق لا أداة تبرير... فلا يحملنّكم ضغطُ سلطان، ولا خوف تضييق، ولا سعيٌ لمنصب، على أن تزيّفوا أحكام الدين أو تُلبسوا الحق بالباطل. فإن سكوتكم هو أول الطريق لانهيار الأمة، وصوتكم هو أول أبواب نصرها. فكونوا كما كان العلماء الصادقون عبر التاريخ يقفون لله، لا للحاكم؛ يقولون الحق لا يخافون في الله لومة لائم؛ يحمون العقيدة من التحوير، ويحملون الأمة إلى العزّ لا إلى التبعية.
ويا أهل الكنانة جميعاً: احملوا دينكم بقوة، واثبتوا على الحق، ولا تسمحوا لأحد أن يصادر عقولكم أو يفرّغ دينكم من محتواه أو يختزله في شعارات جوفاء.
بقلم: الأستاذ سعيد فضل
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر
المصدر: جريدة الراية



