Logo
طباعة
  •   الموافق  
  • كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بين الاغترار بالخطاب وكشف الحقيقة

 

ليس كل من أيّد شخصاً كان فاسد النيّة، ولا كل من دافع عن قائدٍ كان شريكاً في خطئه؛ فكثير من الناس يُضَلَّلون بحسن الظاهر وقوة الخطاب، ويقعون في الاغترار دون قصد. إلا أن المشكلة لا تبدأ من حسن الظن، بل من الإصرار عليه بعد تتابع القرائن، ومن تحويل الأشخاص إلى قضايا مقدّسة لا تُناقش ولا تُراجَع.

 

إن النظر إلى أحمد الشرع لا ينبغي أن يكون من زاوية العاطفة أو الحاجة النفسية إلى "رمز"، بل من زاوية المبدأ والمسار والنتائج. فالرجال يُعرَفون بمواقفهم المتراكمة، لا بخطبةٍ مؤثرة ولا بمرحلةٍ عابرة. والتاريخ القريب والبعيد علّمنا أن أخطر أنواع الانحراف هو الانحراف المتدرّج الذي يُلبس نفسه لباس الضرورة والواقعية حتى يصبح التنازل عن الأصول أمراً عادياً لا يُستنكَر.

 

إن أول ما يلفت المتأمل هو التبدّل الواضح في الخطاب السياسي والعسكري، لا من باب فقه التنزيل كما يقولون! بل من باب إعادة تعريف الصراع نفسه. فحين تتغيّر الأولويات، ويُعاد رسم العدو والصديق بما ينسجم مع ضغوط الواقع الدولي لا مع ثوابت الصراع العقدي والسياسي للأمة، فإن هذا التبدّل لا يمكن تسويغه بمجرد الدعوى العامة عن "المصلحة"؛ لأن المصلحة في ميزان الإسلام لا تُنشئ حكماً، بل تُفهَم في ضوء الحكم.

 

ثم إن أخطر ما في المسألة ليس خطأً واحداً يمكن تبريره، بل سلسلة من التحولات التي تسير في اتجاه واحد: تليين الخطاب حيث يجب التشديد، وتشديده حيث يجب الجمع، والتكيّف المستمر مع ما تفرضه القوى الفاعلة دولياً، لا مع ما تفرضه أحكام الشرع ومصالح الأمة بعيدة المدى. وهذا المسار لا يدل على اجتهادٍ متوازن، بل على خضوعٍ تدريجي لمنطق الواقع القاهر، حتى يصبح الواقع هو الذي يحدّد سقف المبدأ، لا العكس.

 

ولا يصح هنا الاحتجاج بأن "الظروف صعبة" أو أن "المرحلة تفرض ذلك"، لأن هذا التبرير نفسه هو الذي استُعمل عبر التاريخ لتبرير أعظم الانحرافات. فلو كان تغيّر الظروف مبرراً لتغيير الأصول، لما بقي في الأمة أصلٌ ثابت، ولما كان للثبات معنى، ولا للتضحية قيمة.

 

أما الذين لا يزالون يدافعون عنه، فكثير منهم لا يدافع عن الوقائع بقدر ما يدافع عن صورةٍ كوّنها في ذهنه، وعن أملٍ يخشى سقوطه. وهنا مكمن الخطر؛ إذ يتحول الدفاع من بحثٍ عن الحق إلى خوفٍ من الاعتراف بالخطأ. وهذا حالٌ بشري مفهوم، لكنه لا يجوز أن يُحكم به على الدماء والمصائر.

 

إن الميزان العادل لا يطلب من الناس تكفيراً ولا تخويناً بلا بيّنة، لكنه في الوقت ذاته يرفض تعطيل العقل، ويرفض تعليق النقد بحجة "الحساسية" أو "المرحلة". فالقيادة التي لا تُسأل ولا تُحاسَب هي بذرة طغيان، مهما كان خطابها في البداية.

 

والحقيقة التي يجب أن تُقال بوضوح: إن من كان اليوم مغترّاً بأحمد الشرع لا يُلام إن كان جاهلاً بالوقائع، لكنه يُلام إن عُرضت عليه المؤشرات والقرائن ثم آثر التغافل عنها، لأن الإصرار بعد البيان ليس حسن ظن، بل تعطيل للبصيرة.

 

إن الواجب الشرعي والأخلاقي يقتضي أن يُوزن كل شخص بميزان واحد لا يتغير: ماذا قدّم للمبدأ؟ ماذا غيّر فيه؟ إلى أين يقود الناس؟ ومع من ينسّق؟ وعلى أي حساب تكون التنازلات؟ فإذا كانت الإجابات تثير القلق أكثر مما تبعث الطمأنينة، فالصمت حينها ليس حكمة، بل تواطؤ غير مقصود.

 

وفي الختام، فإن الرجوع عن الاغترار ليس هزيمة، بل شجاعة. والاعتراف بالخطأ ليس سقوطاً، بل نجاة. أما الاستمرار في تبرير المسار الخاطئ خشية انهيار الصورة، فهو الطريق الأقصر لتحويل الخديعة الفردية إلى كارثة جماعية. فالحق لا يُعرف بالرجال، ولكن الرجال يُعرفون بالحق، ومن خالفه سقطت عنه كل الزخارف مهما علت كلماته.

 

فلتعِ الأمة ولتعرف طبيعة المرحلة وما هو الحل الجذري لمشاكلها كلها؛ هو غياب الحاكم الذي يحكم بالإسلام ويوحدها وينشر الإسلام للعالم، غياب الخليفة، فإلى هذا الفرض العظيم فلنعمل.

 

كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

هيثم الراجحي – ولاية اليمن

 

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.