Logo
طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

﴿مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً

 

 

ليل ثقيل مظلم، رحلة طويلة شاقة، وعيون تترقب أملا لم يأت بعد، تساؤلات لا نهاية لها، لماذا؟ وإلى متى علينا أن نصبر على ما لا يطاق أو أن نستوعب ما لا يفهم.

 

لا تثريب على حيرتنا، فعالمنا تتكاثر فيه الفتن وتنقلب فيه الموازين، نشاهد أحداثا لا تفسير لها ومشاهد لا تفسر بالمنطق؛ أهل غزة قصفت بيوتهم، ودفنت عائلاتهم، وأحياؤهم سكنوا الخيام التي أنهكتها كثرة الترحال، ومزقتها الأمطار.

 

أطفالهم بردى، جوعى، مرضى، فنتساءل لماذا تم خذلانهم؟ أما أهل سوريا، فبعد ثورة كلفت دماء زكية وتركت نساء ثكلى وأيتاما بلا مأوى، نرى أصحابها اليوم يتنازلون عن مبادئهم باسم المرحلة أو الواقعية، ويتغنون بولائهم بالغرب وإظهاره كحل وحيد لبقاء الشعوب وازدهارها، فلا عجب لو انهمرت علينا أسئلة لا جواب لها: هل بيعت الدماء في سوق السياسة؟ ولماذا من قَتَل حرّ طليق بينما صاحب الحق في السجون؟ حتى على مستوى حياة الفرد لماذا يظلم أو يخذل أو يحرم من حقوقه؟

 

يا لها من أفكار وتساؤلات لا تنتهي، حتى وقفتُ عند آية في سورة الكهف: ﴿مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾...

 

لقد شعرت بثقل هذه العبارة، كأنها تفتح نافذة على سر عميق في حياة الإنسان، سر الصبر الذي يجب أن نتعلمه رغم مرارته، ونعانقه رغم قسوته.

 

فما هو ذلك الأمر الذي لا نستطيع الصبر عليه؟

 

ما أشد وقع هذه الآية على من ظن أن عقله قادر على احتواء حكمة الأقدار، ثم اكتشف أن الحكمة لا تؤخذ من ظاهر الأشياء، بل ترتشف من عمق الصبر، ومن تسليم لا يقاس بالحسابات الأرضية.

 

كم من مشهد في واقعنا اليوم يشبه مشاهد العبد الصالح مع موسى عليه السلام؟

 

حين خرق السفينة فظنه ظلما، فكان نجاة!

 

وحين قتل الغلام فظنه قسوة، فكان رحمة!

 

وحين أقام الجدار في أرض القوم الظالمين، فظنه عبثا، فكان أمانة!

 

نحن اليوم نحكم على الأقدار كما لو أننا نراها كلها، وننسى أن خلف كل ستار تدبيرا إلهيا لا يقاس بالبصر، بل بالبصيرة؛ فكم من حزن أنقذك! وكم من فقد حماك!

 

﴿مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ لم يكن عجزا منك، بل درسا لتتعلم كيف ترفع رأسك نحو السماء لا نحو المواقف. فكم من موقف تسرّعنا في رفضه، لأننا لم نحتمل صبرا على تأويله؟ وكم من مشهد سياسي، أو قرار ثوري تبنته الشعوب وأريقت الدماء، وبدا في لحظته بداية بطولة ونجاة، ثم ما لبث أن تكشف عن كونه تمكينا للحكم السابق وبابا واسعا للفتنة؟ ولنا في سوريا مثال.

 

﴿مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ ليست آية من قصة قديمة فقط، بل هي مرآة لواقع نعيشه؛ حين يطلب منا الإيمان في زمن يقدس الحسابات، وينتظر منا الثبات في لحظة يبدو فيها كل شيء من حولنا مضادا ومتناقضا، فهل نصبر ونلتزم بغرز رسول الله ﷺ دون تفريط ولا إفراط؟ أم ننزلق في فخ الاستعجال، ونفقد البوصلة، ونكون كمن اعترض على السفينة قبل أن تغرق، أو على الجدار قبل أن يكشف كنزه؟

 

علينا أن نفهم أن بعض المواقف التي نراها اليوم خسائر، قد تكون في حقيقتها نصرا مؤجلا، ولنا في غزة عبرة.

 

هذا المقال ليس ترفا فكريا، ولا دعوة للانسحاب من الواقع، بل رسالة لمن ضاق صدره، وتعب قلبه، وثقلت عليه الطريق.

 

فطريق الدعوة إلى إقامة الحق والخلافة، وإن بدا بعيدا وشاقا، قد يكون ﴿مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾، هو نفسه درب الخلاص والتمكين، لو صبرنا.

 

هنا تبدأ الحكاية، وهنا يبدأ الإيمان الحقيقي؛ فما لم تصبر عليه اليوم، قد يكون سر نجاتك غدا.

 

فيا من أثقلتك المحن، وضاق صدرك من الانتظار، اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ولا تيأس إن بدا لك الواقع مظلما، فالأنبياء أنفسهم لم تكشف لهم الحكمة إلا بعد الابتلاء. سيدنا موسى لم يفهم أفعال العبد الصالح حتى انتهى اللقاء، وكل ذلك كان ابتلاء للإيمان، وتمحيصا لليقين، فاثبت وكن من الصابرين، فإن في كل محنة حكمة، وفي كل وجع رسالة، وفي كل تأخير لطفا لا يرى.

 

وما لم نستطع عليه صبرا اليوم، سيكون يوما ما شاهدا على عمق إيماننا بالله، وثقتنا بأن النصر لا يأتي إلا من عند الله، لا من حسابات الأرض ولا من تحالفات الضعفاء.

 

قال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا﴾، هل أدركنا المقصود بقوله تعالى: كتب الله "لنا" لا "علينا"، ما يدل على الرحمة والخير والفضل، أي أن ما يصيبنا هو لصالحنا في النهاية، حتى لو بدا أذى أو ضررا، فالله كتبه "لنا"، أي فيه خير أو مصلحة لنا في الدنيا أو الآخرة، فيا ليتنا نثق بتدبير الله ونصبر على ما لم نستطع عليه صبرا.

 

 

كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

منال أم عبيدة

 

 

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.