- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
هل آن للأمة أن تستفيق؟!
بين غفلة المسلمين ونظام الإسلام المهجور
منذ أن غابت الخلافة عن واقع المسلمين، وابتعد الإسلام عن مجريات الحكم، دخلت الأمة في دوامة من الغربة المؤلمة عن ذاتها ودينها وفطرتها. لم تحتل أرضها فقط، وإنما غاض الحكم بما أنزل الله، وغيبت مقوماتها الثقافية، ومعاييرها الأخلاقية. لم تكن المصيبة فقط في زوال الكيان الجامع، بل في أن تُبدَّل المفاهيم، ويُقلب الميزان، ويُحتل العقل قبل الأرض.
ما نراه بعيوننا: المعركة مع الغرب المستعمر ليست مجرد معركة دبابات وسلاح، بل هي معركة فكرية حضارية. إنهم يريدون أن يُعاد تشكيل المسلم ليس على هويته، بل على صورة المستعمر، أن يحيد عن دينه، أن يكفر بماضيه، أن يستسلم لواقعه. وللأسف أننا نعيش الزمان الذي اختلطت فيه المفاهيم:
أصبح الباطل يُجمّل، يُقدَّم على أنه "حرية"، والمعروف يُستهزأ به، والمنكر يروَّج له كأنه أسلوب حياة عصري. بات الحرام موضة، والانحلال يُباع على أنه تطوّر وانفتاح. وغاب عن كثيرين أن الحضارة ليست بترك مفاهيم الإسلام، وأن التقدّم ليس بانسلاخ الإنسان عن قيمه ودينه وفطرته. إنهم يريدون من المسلم أن يصير غريباً في بيته، غريباً في عقله، غريباً في هويته.
نعم لقد وصل الحال بالمسلم اليوم إلى أن يرى الحق غريباً في بلده، وأن يُتّهم بالتشدد لمجرد تمسكه بعقيدته. لم يعد الصراع في الأمة حول تفاصيل فقهية، بل حول معنى الوجود ذاته، حول الهوية والكرامة والانتماء. المسلم يُجرُّ جرجرةً ليقبل بالحياة كما رسمها له الغرب، حياةٌ ظاهرها التنظيم والرفاه، وباطنها التبعية والضياع.
فصار المسلم يتأمل في حال الغرب، فيراه يعيش حياة منظمة هادئة، فيُفتن بذلك، ويظن أن السر فيهم لا في دينه، في نظمهم لا في شريعته. نسي أو أنسي أن ما عندهم هو قشرة زائفة بلا روح، وأن ما عنده هو الرحمة للعالمين.
فالمشكلة ليست في الجهل فحسب، بل في الانخداع. فالمسلم اليوم لا يدري أنه ضحية مشروع تغريبي استعماري، استهدف عقله قبل أرضه، وزرع فيه اليأس من الإسلام بوصفه نظام حياة، ليظل متمسكاً به كعقيدة روحية فقط، دون أن يراه حلاً شاملاً لكل شؤون الحياة.
فحين يُربّى الإنسان في واقعٍ تحكمه الأنظمة الوضعية، التي تفصل الدين عن الحياة، يُعاد تشكيل وعيه بعيداً عن مقاييس الحق والباطل التي جاء بها الإسلام. فيصبح معيار النجاح ما يروّجه الإعلام، ومعيار القبول ما ترسمه الحضارة الغربية من مفاهيم منحرفة عن السعادة، والحرية، والتقدّم. فمن كان بالأمس يأنف من المنكر، بات يراه اليوم "حرية شخصية"، ومن كان يطمح لأن يعيش في ظل حكم الإسلام، بات مقتنعاً أن السياسة "لعبة قذرة"، وأن الإسلام لا شأن له بالحكم. وتلك هي الغربة الحقيقية التي نعيشها اليوم؛ غربة الفكرة، وغربة الفطرة، وغربة الهوية.
فنسينا وتناسينا قول الله سبحانه وتعالى ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾
بل وتماشينا مع الجاهلية الحديثة التي تعمل ليل نهار لتبديل هذه الفطرة، ونحن لا نملك إلا أن نُجاهد لإعادتها إلى نصابها، فلتكن دعوتنا للناس: عودوا إلى ما فُطرتم عليه، وانهضوا بإسلامكم، فإنه وحده يحرركم من أسر الانحراف ويعيد إليكم إنسانيتكم المسلوبة.
فالإنسان ابن بيئته، وإذا لم تُبدَّل هذه البيئة ببيئة إسلامية نقية، تستمد فكرها ونظامها من الوحي، سيظل أسير الانحراف، وإن ظنّ أنه على صواب.
فالذي أضاع الأمة ليس فقط تخلّفها المادي، بل ضياع منهج النبي ﷺ من حياتها. منهج يجمع بين الروح والعقل، بين العبادة والمعاملة، بين الفرد والمجتمع، بين الدولة والرعية، في نظام إلهي شامل عادل. ولن يُصلح هذا الاعوجاج إلا الإسلام. لا ترميم ولا ترقيع، بل انقلاب حضاري يعيد الإنسان إلى فطرته، ويعيد الإسلام إلى مركز القيادة والتوجيه في كل شؤون الحياة.
فالإنسان، كما خلقه الله، فُطر على إدراك الحق، وعلى التفاعل مع ما يُحيي روحه ويُنير دربه. لكن حين يُربّى في بيئة مشوّهة، في أنظمة لا تحكم بما أنزل الله، في تعليم مسموم، وإعلام موجه، واقتصاد ربوي، ومنظومة فكرية دخيلة، يُصبح عبداً لما ليس من فطرته، ويتشكّل وعيه بمعايير ليست من دينه.
وهكذا يبدأ الانكسار الداخلي...
فحين يغترب المسلم عن عقيدته وهو لا يشعر، ويتقبل الظلم السياسي والضياع الاجتماعي كأنه قدر محتوم، لا نتيجة لفقدان الإسلام كنظام حياة.
فالواقع الذي نعيشه اليوم لم ينشأ من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة لإقصاء الإسلام عن الحكم، ولتبنّي أنظمة كفر جاءت من الغرب، دخلت بلاد المسلمين مع الاستعمار وامتدت جذورها بعده في شكل دول وطنية، بحدود مصطنعة، ودساتير بشرية، وحكومات وظيفية تحرس مصالح الكافر المستعمر وتُشرف على مشروعه في تفتيت الأمة وعلمنة الحياة.
نعم تحت هذه الأنظمة، تغيّرت المفاهيم، وتشوهت الفطرة: صار من يدعو لتحكيم شرع الله يوصف بالرجعية، ومن يلتزم بعفّته متخلفاً، ومن يدعو للجهاد مهدداً للسلم العالمي. فصار الانفتاح انحلالاً، والحريّة حرية كفر وشذوذ، والعقلانية خضوعاً لما تمليه المؤسسات الغربية.
وهذا لا يخفى على أحد، فالغرب لم يكتفِ بإسقاط الخلافة فقط، بل عمل على إعادة صياغة شخصيات تسمى إسلامية، عبر المناهج والإعلام والفن وعبر "دياناتهم الممسوخة" التي تُقدّم اليوم كما نراها على ألسنة دعاة السلاطين. فعلّمونا أن نحب الأوطان أكثر من حبنا لدين الله، وأن نُقدّس الرايات الملونة أكثر من راية رسول الله، وأن ننتمي للجغرافيا لا للعقيدة.
نعم لقد زُرعت في نفوس المسلمين عقدة النقص أمام الغرب الكافر. فصارت المقاييس غربية، والنماذج غربية، والمعايير غربية، فصار البعض يظن أن التنظيم والرفاه لا يكون إلا في ظل هذه الأنظمة الغربية وأن الإسلام لا يصلح لحياة العصر. ولا يدري أن ما يراه من "نظام" في الغرب، إنما قام على دماء المسلمين وثرواتهم، وعلى منظومة مادية بحتة، منفصلة عن الروح والغاية، بل مآلها الخراب مهما بلغت من تكنولوجيا أو رخاء.
نعم إن الغرب اليوم، وفي حربه على الأمة، لا يريد فقط إضعاف المسلمين، بل يريد إلغاء هويتهم، وتجريدهم من مشروعهم الحضاري الرباني، المتمثل بالخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
وأصبح العالم اليوم يعيش على صفيحٍ ساخن من الأزمات المركبة، فلا تكاد تُحلّ أزمة حتى تنفجر أخرى. وقد أصبح واضحاً لكل ذي عقل أن النظام العالمي الذي تقوده الحضارة الغربية آيلٌ للسقوط، ليس فقط بسبب أزماته الاقتصادية المتعاقبة، بل أيضاً بسبب اهتزاز ثقة الشعوب به، وفشل معالجاته، وتفسخه الأخلاقي العميق.
فالنظام الرأسمالي، القائم على جعل المنفعة أساساً لكل شيء، لم يُنتج إلا وحشاً استهلاكياً شرهاً يفتك بالإنسان والأرض والقيم. وهذا النظام لم يعُد قادراً على تقديم حلول حقيقية، بل يصدر الأزمات من بلد إلى آخر، ويغطي فشله بحروب وصراعات وفتن، ويختنق بتناقضاته في كل الميادين، أزمات الثقة تتعاظم بين الحاكم والمحكوم، والمؤسسات السياسية تتآكل، والأسرة تنهار، والمجتمع يعيش انحطاطاً أخلاقياً غير مسبوق. وكلما حاول الغرب أن يتشدق بالحرية والعدالة، سقطت أقنعته أمام الواقع البائس الذي يعيشه الناس في عقر داره، فضلاً عما يصدّره من فساد وظلم إلى باقي شعوب الأرض.
نعم إن سقوط الغرب ليس نهاية التاريخ، بل هو بداية مرحلة جديدة ستنبت من رحم المعاناة، ومن بين أنقاض هذه الحضارة المتعفنة. وهذا يفتح باباً عظيماً أمام الأمة الإسلامية لتنهض برسالتها من جديد، وتقود العالم بنظام رباني عادل، مستمد من الوحي، وهو الإسلام. وهذا لا يكون إلا بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي تربي الفرد على وعي الإسلام، وتنشئ المجتمع على أساس التقوى، وتقيم الدولة على أساس الشرع، لا على مقاييس الغرب. لذا، فالحل لا يكون إلا بتغيير النظام كاملاً، لا بتجميل وجهه القبيح.
وهنا لا بد أن يكون المسلمون على وعي تام بأن العالم اليوم يبحث عن بديل. والبديل الحقيقي ليس في الصين أو روسيا أو أي نظام وضعي آخر، بل في الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي تطبق الإسلام كما أنزله الله، وتقيم العدل الحقيقي، وترعى شؤون البشر وفق شريعة رب العالمين. فعلى الأمة أن تتجاوز أوهام الإصلاح ضمن أنظمة الكفر، وأن تدرك أن التغيير الحقيقي لا يكون إلا باجتثاث النظام الرأسمالي من جذوره، فكما سقطت الشيوعية، ستسقط الرأسمالية، وما ذلك على الله بعزيز.
فالإسلام ليس طقوساً، بل نظام حياة ولم يعرف المسلمون العزة إلا حين حكموا به، ولم يعرفوا الذل إلا حين فُرضت عليهم الأنظمة الوضعية؛ جمهورية أو ملكية، كلها أنظمة بشرية لا تمت للإسلام بصلة. بل أراد الغرب للإسلام أن يبقى حبيس المسجد، وأراد الله له أن يكون ديناً شاملاً، ينظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويحمل رسالته إلى العالم.
ولنعلم جميعا أنه لا نهوض حقيقياً بدون نظام الإسلام، فما الذي يمنعنا من أن نعيد للأمة عزّها ومجدها؟ ما الذي يحول بيننا وبين حياة الصحابة والتابعين، الذين مزجوا بين الإيمان والكرامة، وبين الطهر والريادة؟ ما الذي يقف بيننا وبين اتباع أوامر الله ورسوله ﷺ؟ هل حقاً فقدنا القدرة، أم زُرع فينا العجز حتى أصبح يقيناً كاذباً؟ لا شيء يمنعنا سوى الوهم؛ وهم أن الإسلام لا يصلح لهذا الزمان، وهم أن التقدّم مرهون بتقليد الغرب، وهم أن الرزق بيد أعدائنا، وأن السيادة قدر لهم لا يتغيّر.
وفي الحقيقة أن الله تعالى هيّأ لنا كل شيء، وأرسل لنا نبياً محمداً ﷺ بهذا الدين المكتمل وجعل شريعته رحمة وهداية لكل زمان ومكان، ثم وعدنا بالنصر والتمكين إن نحن اتبعنا أمره. فلماذا لا نصدّق الوعد؟ ولماذا لا نعمل له؟
تخيّل لو أن الأمة اليوم عادت إلى نهج نبيها ﷺ، في زمن التطورات والقدرات العلمية والتقنية الهائلة. لو اجتمعت القوة الإيمانية مع التقدّم المادي. لو أُديرت ثروات الأمة بشرع الله، لو وُحّدت جيوشها، لو رُبيت الأجيال على عقيدة لا تهتز، كيف سيكون حال العالم؟ بل كيف سيكون حال الكافر المستعمر الذي يتغذى على ضعفنا وتفرّقنا؟
فالعدو لم ينتصر علينا بسلاحه فقط، بل بعقله وخبثه، حين جعلنا نرضى بالواقع، وننشغل بالملذات التافهة، ونسعى خلف رغيف الخبز تاركين قضايا الأمة، فغابت الرؤية وسقط الهمّ، وأصبح أقصى طموح الشاب هو "سفر"، وغاية الفتاة "مشروع صغير"، وكأننا لم نكن يوماً أمة قادت الدنيا!
أوهمونا أن الرزق بأيديهم وأن من أراد الراحة فعليه أن يترك بلده، ولغته، ودينه، ويلتحق بقطارهم، ليكون تابعاً ذليلاً تحت نظامهم. لكن من يتدبّر الواقع يرى الحقيقة:
فالذي يمنعنا من استعادة مجدنا ليس الغرب، بل نحن، حين نخشى، ونتكاسل، ونصدّق كذبهم أكثر مما نصدق وعد الله. فالله وعد بالنصر، لكنه جعله مشروطاً بالنصرة ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾.
وليعلم الجميع أن حزب التحرير الرائد الذي لا يكذب أهله، يضع يده على أصل الداء: غياب الإسلام كنظام حياة، ووجود أنظمة عميلة تحكم بغير ما أنزل الله، وتجر الأمة إلى التبعية الحضارية والتشريعية للغرب الكافر المستعمر.
ولذلك ندعو الأمة إلى:
1- الوعي على الواقع: أن ما نعيشه اليوم من ذل وتخلف هو نتيجة حتمية للحكم بغير الإسلام.
2- إحياء الهوية الإسلامية: بفهم الإسلام فهماً سياسياً واقعياً لا روحانياً مفرغاً.
3- العمل الجاد لإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، التي توحد المسلمين تحت راية واحدة، وتعيد السيادة للشرع، وتقود الأمة لتحمل الإسلام رسالة نور وهداية.
أما آن للمسلم أن يُدرك أنه يعيش في وهم؟ أما آن للأمة أن تستفيق من غفلتها؟ فإذا كانت الأمة تعرف أنها مستغفَلة، فستنهض لا محالة، فكيف إذا أفاقت وتجمعت تحت راية الإسلام؟
إنه وعد الله بالاستخلاف، وشرط الله هو العمل ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، فلنعمل مع العاملين لإقامة دولة الخلافة، فهي الأمل الحقيقي والسبيل الأوحد لعودة العزّة والكرامة للأمة الإسلامية. ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
نسيبة الفلاحي (أم وعد) – ولاية اليمن