Logo
طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

حين تتصارع الفيلة فالخاسر الأكبر هو العشب

"السودان مثال"

 

 

 

لم أجد في التاريخ تعبيراً لسوء الاستعمار أبلغ من قول ربعي بن عامر رضي الله عنه، لقائد الفرس: "نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد". وإن كان قوله هذا صدر عنه لبيان الغاية من رسالة الإسلام العظيمة بتكريم الناس بتعبيدهم لله، وما في ذلك من حفظ لأنفسهم وثرواتهم وكراماتهم، إلا أن الشيء أحيانا يتجلى ببيان ضدِّه. فرحمة الإسلام والحرية التي يضمنها تطبيقه على الناس تقابلها عبودية الشعوب والأمم للاستعمار الذي يرى فيهم مجرد ماكنات تدر عليه الذهب والمال.

 

بين كسرى وقيصر، وأمريكا وأوروبا وروسيا والصين، ماض وحاضر استُعبد فيه الناس ونهبت ثرواتهم وطحنت عظامهم في حروب لا تخدم إلا عروش الطغاة. صراع العروش هذا على العالم، ليس جديداً. وإن جاء الإسلام قبل أربعة عشر قرناً فأنقذ الأمم من براثن كسرى وقيصر، وأوصلهم لعبادة الله، وحكمهم بالوحي فعاشوا في هناء وكرامة محفوظي الأنفس والأموال والكرامات والأعراض، فقد هدمت دولة الإسلام منذ أكثر من قرن من الزمان وعاود الباطل استعباده للأمم والشعوب، وعادت البشرية تصطلي بنيران الأكاسرة الجدد. وأصبحت بلاد المسلمين في خانة المفعول به دوما بعد أن فقدنا دولتنا الخلافة دولة العز التي كانت الفاعل الأول في السياسة الدولية بدون منازع ولا تجرؤ دولة أن تكسر لها كلمة.

 

السودان بلد غني بالخيرات، وإن ادَّعى الغرب أنه فقير، يحتاج مساعدات منه ومن ومؤسساته، فهذا ادعاء لص يريد من ذلك ثلاث غايات: الأولى صرف أنظار المسلمين عن مكمن قوتهم وإبقاء الوهم بضعفهم وعجزهم سارياً في نفوسهم، وثانياً ضمان نهبه لثروات البلد دون لفت الأنظار ودون حسيب ولا رقيب، والأهم هو بقاؤه في الدولة وصيّاً مهيمنا يمرر سياساته وينفذ أجنداته لأنه بكل بساطة (لا جبن مجاني إلا في مصيدة الفئران).

 

ولأجل هذه الثلاثية: ضمان السلطة، ونهب الثروات، وإبقاء المسلمين في السودان في حالة ضعف ووهن، تتنافس دول العالم على حصص في السودان.

 

الناظر للصراع في السودان نظرة عابرة سيتوهمه صراعاً إثنياً أو عرقياً أو قبلياً كما درج الإعلام على الترويج، وفي أفضل حال يتم الترويج على أن هذا الاقتتال هو بين العسكر والمدنيين لاستلام السلطة. لكن المسلم الواعي الذي يجعل عقيدة الإسلام هي مرجعيته السياسية، ويعلم أن الكافرين عدو فيتخذهم عدوا، بالتالي لا يمر عليه أي تصريح لقادة الكفر مر الكرام، ولا ينخدع بود زائف، بل يعلم أن دول الكفر وهي تحاول منع نهضة الأمة، فهي تبذل في ذلك الجهود الجبارة في كل مكان، ولن يكون تصريح سياسي أمريكي أو أوروبي عن الصراع في بلد يعتبر سلة غذاء العالم ويطل على أهم الممرات البحرية مثل السودان، لن يكون حشو كلام أو مجرد إبداء رأي، بل المسلم يجب أن يعلم جيداً أن هذه التصريحات المتتالية عن السودان والدعم الإنساني المزعوم ومحاولات إعادة الإعمار كلها تحريك للعملاء ورسم لسياسات البلد القادمة وفق مصالح المستعمر وتثبيت لرجالاته في البلد.

 

فقد كان السودان محط أنظار الغرب طوال القرن الماضي منذ النفوذ البريطاني فيه وربطه بمصر، ثم لما انفك من مصر بقي النفوذ البريطاني يذهب ويعود عنه إلى أن استقر فيه نفوذ أمريكا في عهد النميري وعهد البشير. وإن أوروبا (بريطانيا وفرنسا) لا تزال تحاول النفاذ إليه كلما سنحت لها الفرصة كما فعلت في استغلال قضية دارفور وفشلت، ولا تزال تحاول ليكون لها مدخل إلى السودان. وعليه فإنه من حيث الأهمية، فالسودان مهم وهو محط اهتمام اللاعبين الكبار في السياسة الدولية. اهتمام لا يجر للسودان وأهله سوى حروب بين رجالات اللاعبين الكبار، تطحن البلد وأهله ولا تهتم لا بمئات آلاف القتلى ولا بملايين النازحين ولا أشد أزمات الجوع فتكاً في العصر الحديث.

 

هذه هي الرأسمالية: صراع الساسة على المناصب والثروات ورهن حياة الناس ومقدراتهم للسيد الذي يستعبدهم، لكن للمفارقة، فهو لأجل استمرار تسلّطه عليه أن ينزع عنه صفة المستعمر بل يدخل كحامٍ للبلاد من عدو يصنعه هو بنفسه. فأمريكا اليوم حتى تزيح رجالات أوروبا من الساحة وتضمن عدم وجود من يعكر عليها صفو تسييرها لمصالحها في هذا البلد وعدم وجود منافس على الثروات، تقيم حرباً بين طرفين تمسك هي بخيوط تحركهما وفق مصالحها. توهم الناس أن حميدتي معارض وأن البرهان يمثل الدولة، وفي الحقيقة كلاهما يتم تحريكه من عملاء أمريكا نفسها: مصر والسعودية والإمارات. يؤدون أدواراً تكاملية تخدم أهدافها بطرق مختلفة: فبينما يسعى البرهان لترسيخ سلطته داخلياً عبر حشد السند الشعبي وتفكيك النفوذ الأوروبي بإجراءات قانونية، ويعمل خارجياً على كسب الشرعية الدولية، يعكف حميدتي، في المقابل، على استكمال القضاء على نفوذ بريطانيا في دارفور، خصوصاً في الفاشر، التي يسعى جاهداً للسيطرة عليها دون أن ينجح رغم محاولاته الكثيرة، كما يعمل على إعادة تشكيل نفسه كمعارضة مسلحة قادرة على احتواء ما تبقى من نفوذ أوروبي في حركات الكفاح المسلح في دارفور.

 

وبذلك تستفرد أمريكا بالمشهد السوداني عبر رجالها من كلا الجانبين: حكومة يقودها الجيش بقيادة البرهان، ومعارضة تقودها قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.

 

هذه الحكومات المختلفة، مدفوعة بقيمها الرأسمالية المادية وجوعها الذي لا يشبع لاكتساب الثروة، ليس لديها أي تحفظات بشأن التحريض على الحروب أو تأجيجها من أجل الربح ولا يكترثون بعدد القتلى المروع، أو حجم المعاناة الإنسانية، أو الكارثة الإنسانية الناتجة، ما دامت مصالحهم السياسية والاقتصادية مضمونة.

 

وستظل هذه الحروب مشتعلة في السودان وتستمر معها الأزمات وتتفاقم جوعاً ونزوحاً وسفك دماء ما لم يقف أهل السودان، خاصة المخلصون في الجيش، أمام ثلاثية أمريكا وهي: تقسيم البلاد بفصل دارفور بعد أن فصل الجنوب، والتطبيع مع كيان يهود الغاصب للأرض المباركة ويعيث فيها الفساد، ثم هذه الحرب المشتعلة الآثمة بين المسلمين.

 

 

﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ

 

 

#أزمة_السودان                    #SudanCrisis

 

 

 

كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

بيان جمال

 

وسائط

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.