Logo
طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أمة مكلومة بحكامها فكيف تنهض لتقود العالم؟

 

في زمن تتكالب فيه الأمم على أمة الإسلام، وتتسابق القوى الدولية لتقاسم نفوذها في بلاد المسلمين وثرواتهم، يبقى السؤال الجوهري الذي لا بد أن يُطرح: كيف تنهض هذه الأمة من كبوتها؟ كيف تعود لتقود العالم من جديد، وتنقذه من شقاء الرأسمالية، وظلم القومية، وعبث الديمقراطية، ودمار الاشتراكية؟ كيف تنتقل من حال التبعية والضعف إلى السيادة والقوة؟ هذا السؤال ليس ترفاً فكريّاً ولا رفاهية تحليلية، بل هو سؤال مصيري، يرتبط بوجود الأمة وكرامتها، بل وبعقيدتها التي حمّلتها مسؤولية قيادة البشرية.

 

إن النهوض بالأمة لا يمكن أن يتحقق إلا بإعادة تشكيل وعيها، وإعادة بناء شخصيتها، وقطع علاقتها بكل المفاهيم الدخيلة التي زُرعت فيها على مدى قرون من الغزو الفكري والسياسي. فالنهوض يبدأ من الداخل، من تغيير مفاهيم الناس، وليس فقط من خلال الشعارات أو المطالبات بالإصلاحات الشكلية.

 

الفكرة التي تنهض بها أي أمة لا بد أن تكون فكرة كلية، تعالج مشاكل الإنسان بوصفه إنساناً، وتبيّن العلاقة بينه وبين خالقه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين غيره. لا بد أن تكون الفكرة متجذّرة في عقيدة عقلية يقينية، تفسر الوجود وما قبله وما بعده، وتبني على أساسها نظاماً شاملاً للحياة. هذه الفكرة ليست نظريات نسبية، ولا فلسفات متبدلة، ولا عقائد روحية مبتورة، بل فكرة حية تولّد نظاماً ربانيّاً ينظّم حياة الإنسان في كل جوانبها، من العبادة إلى السياسة، ومن الاقتصاد إلى القضاء، ومن الحكم إلى العلاقات الدولية.

 

إن الإسلام - بوصفه وحياً من عند الله - يحمل هذه الفكرة. فهو ليس ديناً كنسيّاً محصوراً في الشعائر، بل دينٌ ومنه دولة، عقيدةٌ ونظام، فكرٌ وسلوك. لذلك كانت أولى خطوات النهوض أن تستعيد الأمة ثقتها بعقيدتها كنظام حياة، لا كموروث ثقافي أو هوية حضارية.

 

هل هناك نهضة بلا وعي سياسي؟

 

إن ما تمر به الأمة من تفتيت وتمزق ليس قضاءً محتوماً، بل هو نتاج سياسات استعمارية خبيثة، نُفّذت بأيدٍ محلية تابعة. لقد تم هدم الخلافة، وتقسيم بلاد المسلمين إلى كيانات هزيلة، وأقيمت أنظمة وظيفية تحرس حدود سايكس بيكو أكثر مما تحرس عقيدة الأمة وثقافتها. وتمت صناعة نُخب سياسية وفكرية تعيد إنتاج التبعية، وتزيّن للمسلمين نظم الغرب ومفاهيمه. فأصبحت الديمقراطية صنماً، والعلمانية قدَراً، والرأسمالية حلماً، وصار تطبيق الإسلام وصفة للتطرف أو الرجعية!

 

لذا، لا نهضة بدون كشف هذه الحقائق، ولا تحرر دون فضح هذه التبعية، ولا عودة لمكانة الأمة إلا بإزالة هذه الأنظمة العميلة واستبدال قيادة مخلصة واعية بها، تقود الناس على أساس الإسلام، لا على أساس المصالح الشخصية ولا الإملاءات الخارجية.

 

هل يمكن أن توجد نهضة بدون نظام تطبقه دولة؟

 

الإسلام لا يُفهم نظرياً فقط، بل يُطبق عملياً من خلال دولة تنفذ أحكامه وتحمل رسالته. فكما لا تُفهم الصلاة إلا بأدائها، لا يُفهم الإسلام إلا بتطبيقه الكامل في الواقع. وهذا التطبيق لا يكون إلا من خلال دولة تقيم العدل، وتحمل الإسلام للعالم دعوةً وجهاداً، وتحفظ الأمن، وتحمي الثغور، وتُحسن رعاية شؤون الناس في الصحة والتعليم والاقتصاد والقضاء والإعلام.

 

النظام الإسلامي في الحكم ليس ملكيّاً ولا جمهورياً ولا عسكرياً، بل هو نظام الخلافة، تُبنى على أساس البيعة، وتُقيم العدل، وتُحاسب الحاكم، وتضمن حقوق الرعية من مسلمين وغير مسلمين، على حد سواء، ضمن قواعد الإسلام العادلة.

 

النهوض لا يتم جماعيّاً دون طليعة تقود الأمة نحو التغيير الحقيقي، على أساس الإسلام. فلا تكفي العاطفة ولا الحماسة، بل لا بد من الوعي السياسي العميق على الواقع المحلي والدولي، والوعي الشرعي الدقيق على الأحكام المرتبطة بتغيير الواقع. هذه الطليعة لا تساوم، ولا ترضى بأنصاف الحلول، ولا تنخرط في أنظمة الكفر بحجة التدرج أو الإصلاح من الداخل، بل تسير بخطا ثابتة نحو إعادة الإسلام إلى مركز الحياة، من خلال إقامة دولته الجامعة المانعة، دولة الخلافة الراشدة الثانية.

 

الأمة هي التي ستنهض، وهي التي ستغيّر واقعها بيدها، ولا بد من إعادة الثقة لها بنفسها، بعد أن زُرع فيها الوهم بأنها قاصرة لا تصلح للحكم، وأنها متطرفة إذا تمسكت بدينها، وأنها لا تستطيع العيش دون وصاية الغرب. لا بد أن تُستنهض عزيمتها، وأن تُكسر القيود التي كبّلت إرادتها، وأن يُزال عنها الخوف المصطنع من التغيير.

 

إن الأمة الإسلامية حين تتحرك بوعي، وتنهض على أساس الإسلام، وتتبنّى مشروعاً سياسيّاً ربانيّاً متكاملاً، فإنها حتماً ستنتصر، وحتماً ستعود لتقود العالم من جديد، وهذه ليست أمنية، بل وعدٌ من الله سبحانه وبشرى من رسوله ﷺ، ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾.

 

كثيرٌ من محاولات النهضة في بلاد المسلمين فشلت لأنها سارت على خطا الغرب، وظنت أن النهضة تعني إقامة المصانع، أو التوسع في البنية التحتية، أو الانفتاح الاقتصادي، دون النظر إلى البنية الفكرية والنظامية التي تحكم هذه الجهود. إن الحضارة الغربية قائمة على فصل الدين عن الحياة، وعلى الاستعمار والهيمنة، وعلى الأنانية والربح المادي، وهي اليوم تعاني من الانهيار الأخلاقي والتفكك الاجتماعي والظلم الاقتصادي. فهل يعقل أن نقتدي بحضارة تلفظ أنفاسها الأخيرة؟!

 

النهضة الإسلامية لا تعني أن نكون نسخة عربية من أوروبا، ولا أن نستورد "التقدم" معبّأ في سياسات ومنظمات، بل أن نعيد تشكيل حياتنا على أساس عقيدتنا، ونصوغ مفاهيم الحياة والسياسة والاقتصاد والتعليم من خلال الإسلام، لا من خلال ما يُملى علينا من المؤسسات الدولية.

 

الطريق واضح والمهمة عظيمة

 

إن الطريق إلى النهضة ليس سراباً، ولا مجهول المعالم، بل هو طريق واضحٌ مستقيم، رسمه الوحي، وسار عليه رسول الله ﷺ، وسلكه الصحابة من بعده، فأقاموا دولة عظمى غيرت وجه التاريخ. وكل تأخير في سلوك هذا الطريق إنما يزيد الأمة ضعفاً، ويطيل معاناتها، ويتركها لقمة سائغة في فم أعدائها.

 

فليكن شعارنا: لا إصلاح بدون تغيير جذري، ولا تغيير إلا بالإسلام، ولا تطبيق للإسلام إلا بدولة، ولا دولة إلا بخلافة راشدة، ولا خلافة إلا بوعي الأمة وإرادتها الصلبة.

 

هذه هي المهمة العظيمة، وهذه هي بشائر النصر... فمن لها؟

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ

 

كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

محمود الليثي

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر

 

وسائط

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.