- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2025-08-20
جريدة الراية: ممر زانجيزور
الجغرافيا السياسية في مواجهة الجغرافيا الاقتصادية
ينتقل مشروع ممر زانجيزور من مرحلة التفاوض إلى مرحلة التنفيذ الفني. تعمل أذربيجان بنشاط على تطوير البنية التحتية للنقل على أراضيها، بما في ذلك على طول حدود نخجوان. كما أكدت تركيا استعدادها لتوفير خط سكة حديد عبر قارص. وفي الوقت نفسه، رفضت أرمينيا من جانب واحد قبول مشروع الممر، وطالبت بالسيطرة الكاملة على طريق النقل على أراضيها. وهذا يعني أن تنفيذ هذا المشروع يعتمد على الاتفاقيات السياسية بين أرمينيا وأذربيجان ومواقف القوى الخارجية الكبرى التي ترغب في التدخل في هيكل النقل الجديد في المنطقة.
للوهلة الأولى، تبدو هذه المبادرة اللوجستية بمثابة صراع مصالح بين جهات إقليمية فاعلة مثل أذربيجان وأرمينيا وتركيا. ولكن الواقع يشير إلى أن ممر زانجيزور لا يزال يتحول إلى ساحة تنافس عالمي، تسعى أمريكا والصين وروسيا للسيطرة عليه. لا يقتصر هذا الصراع على البضائع فحسب، بل يشمل أيضاً وسيلة للتأثير على ممرات النقل، وفتح الوصول إلى الأسواق، وتغيير التوازن الاستراتيجي في أوراسيا.
من الناحية الاقتصادية، إذا قارنا ممر زانجيزور بقناتي السويس وبنما، نرى أن فوائده ضئيلة للغاية. فحجم البضائع المارة عبر هاتين القناتين وأهميتهما في التجارة العالمية أعلى بكثير. على سبيل المثال، تغطي قناة السويس حوالي 12% من حجم التجارة العالمية، ما يحقق لمصر إيرادات تتراوح بين 9 و10 مليارات دولار سنوياً. أما قناة بنما، وهي الشريان الرئيسي بين المحيطين الأطلسي والهادئ، فتُحقق إيرادات صافية تبلغ 4 مليارات دولار سنوياً.
للمقارنة، يمر عبر ممر زانجيزور ما بين 10 و15 مليون طن من البضائع سنوياً، ويُحقق إيرادات تصل إلى بضع مئات الملايين من الدولارات كحد أقصى (للدول المشاركة: أذربيجان، تركيا، أرمينيا، كازاخستان). وتكاليف هذه البنية التحتية البرية - بالنظر إلى سلاسل اللوجستيات المعقدة وخطر عدم الاستقرار السياسي - أقل بكثير من تكاليف القنوات البحرية.
ومع ذلك، من وجهة نظر السياسة الخارجية الأمريكية، يُعد ممر زانجيزور ذا قيمة استراتيجية كهدف للسيطرة. ففي تاريخ أمريكا، لم تكن قناة بنما مشروعاً اقتصادياً، بل كانت أداة استراتيجية للتحكم في التجارة البحرية والتحركات العسكرية. والعرض الذي تقدمت به حاليا لاستئجار جزء من ممر زانجيزور يشير إلى رغبتها في التواجد وممارسة نفوذها في المنطقة، فهي تسعى من خلال ذلك، إلى كسب نفوذ سياسي، لا إلى دخل إضافي.
تدرس أمريكا إمكانية منْح أرمينيا السيطرة على الجزء الرئيسي من الممر، البالغ طوله 32 كيلومتراً، وأخْذ هذا الجزء تحت إدارتها الخارجية لمدة تصل إلى 100 عام. يُشبه هذا النهج الاستراتيجيات المستخدمة في قناة بنما أو القواعد العسكرية. فالهدف الرئيسي هو الجغرافيا السياسية، وليس اللوجستيات. تسعى أمريكا عبر هذا الإجراء إلى طرد روسيا، وإضعاف إيران، والحد من نفوذ الصين في هذا الجزء من "الحزام الأوسط". وبالتالي، فإن السيطرة على زانجيزور هي وسيلة لمنع الصين من استخدام البنية التحتية الأوراسية دون سيطرة أمريكا.
من ناحية أخرى، ترى الصين هذا الطريق بديلاً عن الطريق عبر روسيا، لأن طرق النقل الروسية معرضة لخطر العقوبات والعمل العسكري. تهتم بكين بتنويع الممرات في إطار مشروع "حزام واحد، طريق واحد". ولذلك، تستثمر في البنية التحتية لبحر قزوين وجنوب القوقاز، وتطور الموانئ والمحطات الطرفية والسكك الحديدية. ومع ذلك، تتخذ الصين إجراءات حذرة وغير مباشرة في هذا الاتجاه، حيث تفضل تنفيذ تعاون النقل متعدد الوسائط ومنصات اللوجستيات متعددة الأطراف بدل التدخل السياسي أو العسكري المباشر.
تواجه أذربيجان وضعا صعبا في هذا الصراع؛ فمن ناحية، تستخدم باكو هذا الممر بنشاط كوسيلة لزيادة نفوذها ونموها الاقتصادي وتوطيد علاقاتها مع ناختشيفان. ومن ناحية أخرى، فإن افتتاح ممر زانجيزور، وخاصةً إذا كان مصحوباً بتدخل عسكري أو سياسي من قوى خارجية، فسيحول المنطقة فعلياً إلى ساحة صراع للمصالح الاستعمارية. قد تحصل أذربيجان في المستقبل، على عائدات عبور وامتيازات سياسية من أرمينيا على المدى القصير، لكنها قد تفقد سيطرتها السيادية على هذا الممر، على المدى البعيد وتواجه ضغوطاً خارجية متزايدة وتهديداً بعدم الاستقرار في المناطق الحدودية.
تبرز تركيا كشريك فاعل في هذا المجال، لكن أهدافها لا تقتصر على الجانب اللوجستي. حيث تسعى أنقرة جاهدةً إلى بناء خط نقل سياسي مباشر من مضيق البوسفور إلى بحر قزوين، ثم إلى آسيا الوسطى وبكين، وتحاول تبرير ذلك بفكرة "العالم التركي". مع ذلك، لا تتدخل أمريكا بشكل مباشر في هذا المشروع، بل تدعم تركيا كقوة موازنة في المنطقة، إذ يمكنها الحد من نفوذ إيران وروسيا والصين في آن واحد. وهكذا، تُنشئ أمريكا تحالف مصالح متكيفاً مع تركيا وباكو، وتُحوّلهما إلى لاعبين مستقلين ولكن منسقين. مع ذلك، لا يخلو هذا التحالف من تناقضات داخلية: فبينما تحافظ تركيا على التوازن بين الغرب والشرق، قد تصبح أذربيجان ضحية لاستراتيجية الغرب. أما أرمينيا، فعلى الرغم من ضعفها، فإنها تتمتع بميزة بالغة الأهمية أي المنطقة التي يمر بها هذا الطريق. فهل ستحتفظ يريفان بسيادتها في هذه المنطقة أم لا؟ سيحدد ذلك شكلُ الممر المستقبلي. بمعنى آخر، هل سيكون هذا عبوراً تحت الولاية القضائية الأرمينية أم مشروعاً خارج الحدود الإقليمية تحت السيطرة الأمريكية؟ ستُظهر ذلك نتائجُ المفاوضات.
وبالتالي فإن مشروع ممر زانجيزور في مرحلة انتقالية حالياً. ورغم تطوره من حيث البنية التحتية، إلا أنه لا يزال غير مستقر سياسيا. وسيبقى هذا المشروع حبراً على ورق إلى أنْ تُقدم الفوائد الاقتصادية الموعودة، والضمانات الموثوقة، للدول المشاركة. وفي الوقت نفسه، تتزايد المخاطر السياسية على هذه الدول التي يشكل المسلمون فيها غالبية السكان. وبينما تسعى أذربيجان إلى السيطرة والإيرادات، فإن أراضيها معرضة لخطر أن تصبح ساحة معركة بين القوى الكبرى مثل أمريكا والصين وروسيا. وهذا يخلق خطر التبعية السياسية وعدم الاستقرار طويل الأمد. ولا يمكن ضمان الازدهار والاستقرار في هذه المنطقة تماماً إلا في ظل الخلافة الراشدة الثانية.
بقلم: الأستاذ لطيف الراسخ
المصدر: جريدة الراية